«الموت ثمن نهائي يدفعه الصحافيون لكشفِ الحقيقة» *أودري أزولاي، المديرة العامة لمنظمة اليونسكو
في يناير (كانون الثاني) عام 2022، قالت منظمة «اليونسكو» إن عام 2021 قد شهد مقتل 55 صحافيًّا، بالتزامن مع حالة إفلات من العقاب لمن قتلهم تُنذر بالخطر، إذ دفع الصحافيون الثمن النهائي لكشفِ الحقيقة من أرواحهم، بحسب ما صرحت به المديرة العامة لمنظمة اليونسكو أودري أزولاي، وهو ما تكرر أمس الأربعاء 11 مايو (أيار) مع استشهاد مراسلة «الجزيرة» شيرين أبو عاقلة، أثناء تغطيتها لأحداث اقتحام مدينة ومخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة بفلسطين، برصاصة في الرأس على يدِ قوات الاحتلال الإسرائيلي، الأمر الذي يجعلنا نتساءل: لما يجري استهداف الصحافيين؟
كشف «المسكوت عنه» في النزاعات وجرائم الحرب
تعليقًا على خبر استشهاد شيرين أبو عاقلة، نشرت الممثلة الأمريكية الحاصلة على الأوسكار، سوزان ساراندون، تغريدة على موقع التواصل الاجتماعي «تويتر» تقول فيها: «أُعدمت شيرين أبو عاقلة بطلقة في الرأسِ من أحد القناصة الإسرائيليين، وهي ترتدي خوذتها وسترة الصحافة، إلى متى هذا الصمت على حلفائنا وهم يقتلون الصحافيين لأنهم يبلغون الحقيقة».
Shireen Abu Akleh was EXECUTED with a shot to the head by Israeli snipers while wearing her helmet & bullet proof vest that said PRESS on in.
How long will we continue remaining silent while our “allies” kill journalists for telling inconvenient truths?#شيرين_ابو_عاقلة
— Susan Sarandon (@SusanSarandon) May 11, 2022
(تغريدة سوزان ساراندون عبر حسابها «تويتر»)
نشر الحقيقة والحديث عن المسكوت عنه، كان السبب الأكبر في المخاطر التي يواجهها الصحافيون أثناء تغطية الأحداث، وما تحفل به من انتهاكات جسيمة، حسب ما جاء في تقرير منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «اليونسكو».
(إعلان استشهاد الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة)
ففي عام 2021 وحده، واجهت نسب عالية من المشتغلين بالصحافة – وفقًا للتقرير – السجن والاعتداءات الجسدية والتعرض للمضايقات والترهيب، بل تعرض حوالي 55 صحافيًّا حول العالم للقتل، وكان ثلثا الضحايا في دولٍ خالية من النزاعات المسلحة.
كما كانت منطقة آسيا والمحيط الهادئ وأمريكا اللاتينية من الأماكن التي شهدت نسبةً عاليةً من ضحايا الصحافة، مثل الصحافي الميانماري ساي وين أونج الذي قُتل أثناء تغطيته لمحنة اللاجئين في ولاية كايين الجنوبية الشرقية في 25 ديسمبر (كانون الأول) 2021، بعدما أصيب خلال هجوم للقوات المسلحة في ميانمار.
رغم ذلك، لم تكن تغطية النزاعات الدائرة السبب الوحيد الذي قُتِلَ من أجله الصحافيون، ففي بعض الأحيان كان كشف جرائم الحرب التي ارتكبتها بعض الأنظمة، سببًا في التصفية الجسدية للصحافيين؛ كما حدث مع آنا بوليتكوفسكايا الصحافية الاستقصائية الروسية، والتي اشتهرت بتغطيتها لقضايا الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان في الشيشان، إذ انتهت حياة آنا، المعارضة الشرسة للكرملين، برصاصة أطلقت عليها في بهو مبنى منزلها بموسكو في السادس من أكتوبر (تشرين الأول) 2006 في وضح النهار.
كانت آنا بوليتكوفسكايا تكتب تقاريرها عن الشيشان التي مزقتها الحرب، بدايةً من عام 1999، وقد اشتهرت خلال تلك الفترة بتغطيتها الانتقادية للسياسة الروسية، وكشفت كتابات آنا، على مدار سبع سنوات، الجرائم التي ارتكبتها القوات الروسية بحق المدنيين في الشيشان خلال فترة الحرب، وبحسب تانيا لوكشينا، مديرة برنامج روسيا في «هيومن رايتس ووتش»، فإن الفضل يعود إليها في أن يعرف العالم عن ذلك؛ إلا أنها دفعت حياتها ثمنًا لذلك.
ثمن الوقوف في وجه «المافيات».. كشف كواليس عالم الجريمة
إذا كنت ممن يتابعون الأخبار حول العالم، حتمًا ستكون سمعت عن وضع الصحافيين في المكسيك؛ وهي الدولة التي أصبحت اليوم أكثر خطرًا على حياة الصحافيين أكثر من ذي قبل، خاصةً منْ يعملون في تغطية أخبار «الجريمة» وتتبُّع قضايا الفساد، ففضلًا عن كون المكسيك «دولة معادية للصحافيين» الذين يسميهم الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز، بـ«أعداء الشعب»، فقد واجه المشتغلون بالصحافة حربًا من نوعٍ آخر مع أباطرة المخدرات في المدينة، الذين يسعون إلى إسكات معاديهم.
وتكشف بيانات «لجنة حماية الصحافيين» لعام 2017 أن غالبية المراسلين الذين جرى قتلهم في المكسيك خلال العقود الأخيرة ركزوا تغطيتهم الإخبارية على قضايا الجريمة والفساد؛ وقد قُتل معظمهم في أعمالِ انتقامية من طرف مجرمين يسعون إلى إسكات صوتهم.
«إنها ليست حادثة جديدة لوفاة صحافي، بل موت مجتمعنا بأكمله، الذي اعتاد شيئًا فشيئًا اغتيال أفضل أبنائه، واسكاتهم بشتى الطرق»* صحيفة «La Jornada» المكسيكية تنعي وفاة أحد الصحافيين.
المكسيك دولة مزقتها تجارة المخدرات، وهي من أكثر الأماكن التي تستهدف الصحافيين والإعلاميين الذين يتعرضون لتهديداتٍ متفاقمة، وحوادث قتل تمر غالبًا بلا عقاب، ومن أبرز الأمثلة على ذلك، مقتل ميروسلافا بريتش فيلدوسيا، مراسلة الجرائم بصحيفة «لا جورنادا» الوطنية، وهي الصحافية التي قتلت خارج منزلها في ولاية تشيهواهوا الشمالية، بعد أن أطلق مسلح مجهول النار عليها ثماني مرات أمام طفلها، وقد نعتها الجريدة بعبارة «المجتمع يغتال أفضل أبنائه».
في إشارة إلى أن الصحافية قُتلت انتقامًا مباشرًا لعملها، وهو ما أكدتهط بيانات لجنة حماية الصحافيين لعام 2017، عندما ارتفعت حصيلة القتلى من الصحافيين في منتصف العام إلى سبعة أفراد، منهم أربعة مراسلين قُتلوا انتقامًا من التقارير التي كتبوها.
وفي عام 2022 قُتل ثمانية صحافيين في المكسيك، وفقًا للبودكاست الذي نشرته جريدة «الجارديان» البريطانية مؤخرًا، بينما قُتل تسعة صحافيين مكسيكيين في العام الماضي، ومن ضمن شهداء الكلمة الذي دفعوا حياتهم ثمنًا لتغطية عالم الجريمة في المكسيك، الصحافي مارجريتو مارتينيز، الذي قتل أمام منزله في وقتٍ سابقٍ من هذا العام.
كان مارتينيز صحافي نشط في تغطية أحداث الجرائم، ويحكي عنه أحد زملائه أنه وقت تعرف عليه، كان مارتينيز يعمل على إحدى القضايا، فأخذ يطارد سيارة الإسعاف إلى مسرح الجريمة عبر الشوارع المظلمة، في إشارة إلى همته وجهده خلال العمل، إلا أن عمله في تغطية الجرائم أودى في النهاية بحياته، وكالعادة فإن أغلب حوادث اغتيال الصحافيين تكون بيدِ مسلح مجهول، مما يؤكد سيادة الإفلات من العقاب.
مؤخرًا وعلى مدار ثلاثة أيام، قتل ثلاثة صحافيين مكسيكيين، منهم امرأتان تعملان في موقع «El Veraz» الإخباري، هن يسينيا مولينيدو، والمراسلة شيلا جوهانا غارسيا، اللتين قتلتا بالرصاص أثناء جلوسهن في سيارة متوقفة أمام أحد المتاجر، وذلك في التاسع من مايو (أيار) 2022 في ولاية فيراكروز الشرقية.
(تشييع جنازة الصحافيين يسينيا مولينيدو وشيلا جوهانا جارسيا بالمكسيك)
أما الصحافي الثالث فهو، لويس إنريكي راميريز، كاتب عمود في صحيفة «El Debate» المكسيكية، وقد قُتل الخميس الماضي إثر ضربات في الرأس بعد أن أصيب بعيارٍ ناري في ساقه، وذلك وفقًا لبيان صادر عن مكتب المدعي العام، وقال شهود عيان إنهم رأوا راميريز يُجبر على ركوب شاحنة بيضاء، قبل أن يعثر على جثته ملقاة في طريقٍ ترابيٍّ.
الموت مقابل الكلمة.. كلفة كشف فساد السلطات والانتهاكات
لا تتوقف جرائم القتل بحقِ الصحافيين على النزاعات المسلحة وعالم الجريمة فقط، بل كان الوقوف في وجه الأنظمة ومحاولات كشف الانتهاكات التي ترتكبها، والفساد الذي ينخر في مؤسساتها السياسية والاقتصادية، سببًا آخر للتصفية الجسدية للصحافيين بلا رحمة.
ولعل أشهر جريمة وقعت في هذا السياق، هي اغتيال الصحافي والمعارض السعودي جمال خاشقجي عام 2018 داخل السفارة السعودية في تركيا، إذ دفع حياته ثمنًا لمواقفه السياسية؛ إذ كان خاشقجي قد عُرف بانتقاداته للحكومة السعودية عقب تولي محمد بن سلمان ولاية العهد، في وقتٍ شهدت البلاد موجة من الاعتقالات ضد رجال الدين والنشطاء والمدافعين عن حقوق الإنسان.
وكانت صحيفة «الحياة اللندنية» لصاحبها الأمير خالد بن سلطان قد أنهت علاقتها بخاشقجي في ديسمبر (كانون الأول) 2017، وذلك قبل وفاته بوقتٍ وجيزٍ؛ إذ منعت كتاباته التي تنشرها الصحيفة بدعوى أنها تحتوي على «تجاوزات ضد السعودية»، وكان خاشقجي يعيش قبل قتله غريبًا في منفاه الاختياري بالولايات المتحدة، ولا يستطيع حتى زيارة بلده.
(جمال خاشقجي)
لكن خاشقجي لم يكن وحده الذي راح ضحية معارضة الأنظمة، ففي عام 2018 على سبيل المثال، قُتل مراسل الموقع الإخباري السوري «Sy24» إبراهيم المنجر، أمام منزله على يد مجهولين في شهر مايو (أيار)، إذ كان يعمل على توثيق كل القصص الصحفية بنفسه في ظل الظروف الأمنية الخطيرة، فاشتغل مُصورًا ومحررًا يعمل على إيصال حقيقة الداخل السوري وكشفها للعالم.
واحدة من القصص الرائعة التي عمل عليها إبراهيم بشكلٍ خاصٍّ، كانت عن الأطفال الذين يعيشون في درعا وقاموا في بداية الثورة بالرسم والكتابة على الجدران داعين بشار الأسد للرحيل، فكانت النتيجة أن اعتقل النظام السوري الأطفال وجرى تعذيبهم في سجونه، وهي الحادثة التي كانت شرارة الثورة السورية.
ونتيجةً لعمله الصحفي، كان إبراهيم يتلقى التهديدات من نظام الأسد وعناصر تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش)؛ وذلك حتى قُتل أمام منزله بواسطة مجهولين، وعن ذلك يقول زميله في موقع «Sy24» الصحافي غيث حمور لـ«الجارديان» البريطانية: «لا نعرف حتى على وجه التأكيد من قتله، فسوريا هي أخطر مكان في العالم على الصحافيين».
وإذا انتقلنا من سوريا التي تشهد حربًا على مدار أكثر من عقد إلى بلدٍ خاليةٍ من النزاعات المسلحة، مثل سلوفاكيا، سنجد المصير ذاته يلاحق الصحافيين الذين يسعون خلف قضايا فساد المسؤولين الكبار، مثل الصحافي الاستقصائي لموقع الأخبار السلوفاكية «Aktuality.sk» كوشياك، الذي عثر على جثته هو وخطيبته مارتينا كوشنيروفا، بعد إطلاق النار عليهما من طرف مجهولين.
كان كوشياك يعمل لمدة الـ18 شهرًا التي سبقت وفاته على تحقيق استقصائي حول الروابط المحتملة بين رئيس الوزراء السلوفاكي وفرع من المافيا الإيطالية، إلا أن وفاته حالت دون نشر التحقيق في حياته؛ إذ جرى نشره على يد فريق من الصحافيين عمل عليه، وأتم المعلومات الناقصة ونشره كاملًا.
وبسبب هذه المخاطر التي تحيق بالصحافيين حول العالم، إذ يتعرض أغلبهم للانتهاكات والتعذيب ويصل الأمر للتصفية الجسدية بمجرد دخولهم «عش الدبابير» للحديث عن المسكوت عنه، فإن «منظمة اليونسكو» وهي المنظمة المعنية بالدفاع عن حرية التعبير والصحافة، تحاول تطوير خطة عمل الأمم المتحدة بشأن ضمان سلامة الصحافيين، وعدم الإفلات من العقاب في قضايا الاغتيالات، وقد دعت المنظمة أمس لفتح تحقيقٍ في مقتل المراسلة الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، التي كانت تعد تقريرًا عن مدينة ومخيم جنين عندما تلقت رصاصة في الرأس على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي ذات الماضي الحافل بتتبُّع الصحافيين واغتيالهم بدمٍ باردٍ.