قبل أيامٍ من مرور الذكرى السادسة لبدء عملية «عاصفة الحزم» التي أطلقها التحالف العربي ضد الحوثيين في اليمن، طرحت السعودية مبادرة لإنهاء الأزمة اليمنية، تضمنت وقفًا كاملًا لإطلاق النار تحت مراقبة الأمم المتحدة، وإيداع عائدات الضرائب من المشتقات النفطية في حساب مستقل بالبنك المركزي، وفتح مطار صنعاء، وبدء مشاورات الحل السياسي بين أطراف النزاع؛ بهدف الوصول في النهاية إلى اتفاق سياسي شامل.
وبينما يقول وزير الخارجية السعودي، فيصل سرحان في مؤتمر صحفي، عن المبادرة إنها «تمنح الحوثيين الفرصة لتحكيم العقل، ووقف نزيف الدم اليمني، ومعالجة الأوضاع الإنسانية والاقتصادية»، جاء الرد سريعًا على لسان المتحدث باسم جماعة الحوثي الذي قال: «أي مواقف أو مبادرات لا تلاحظ أن اليمن يتعرض لعدوان وحصار منذ ست سنوات وتفصل الجانب الإنساني عن أي مقايضة عسكرية أو سياسية وترفع الحصار فهي غير جادة ولا جديد فيها». التقرير التالي يشرح لك، لماذا يرفض الحوثيون مبادرات السعودية، ولماذا تبدو معادلة الحرب على مغارمها أقل وطأة بالنسبة لبعض المتصارعين في اليمن من مفاوضات سلام.
لماذا لن تنتهي الحرب بدعوة للتفاوض؟
يقول الدكتور العراقي لقاء مكي، الذي يعمل باحثًا أول في مركز الجزيرة للدراسات عبر حسابه الشخصي على «تويتر»، تعليقًا على المبادرة السعودية: «لا أعرف أن حربًا انتهت بالدعوات والمناشدات. الحروب خلفها أجندات ومصالح ومستفيدون، ولا تنتهي إلا بالإرغام وكسر الشوكة. فقط هزيمة أحد الطرفين في الميدان، أو اقترابه من ذلك، هو ما ينهي الحرب، وينقلها لطاولة التفاوض».
الطرح الذي عرضه «مكي» يستند إلى أن توقيت المبادرة السعودية يتنافى مع سياق ما يجري حاليًا في الميدان؛ حيث تدور أهم معركة في تاريخ حرب اليمن بالنسبة لطرفي النزاع، فالحوثيون يشنون منذ شهرين هجومًا ضاريًا لمحاولة إسقاط محافظة مأرب – وسط اليمن – وهي البوابة الشرقية للعاصمة صنعاء، والمعقل الأخير للحكومة المعترف بها دوليًّا في شمال اليمن، وعاصمة النفط التي تمثل النفوذ السعودي في اليمن، وبالتالي فلا يمكن للسعودية أن تطرح مبادرة للسلام أو حتى تفرضها، وهي لم تعد الطرف الأقوى سياسيًّا وعسكريًّا في الحرب.
ويفشل الحوثيون منذ عام 2016 في إسقاط مدينة مأرب، ورغم كل الخسائر البشرية والمادية التي تكبدتها قواتهم، فإنهم لم ينسحبوا من مواقعهم على تخوم تلك المدينة، على خلاف بقية المعارك الأخرى.
بالنسبة للحوثيين، فلا يمكن القبول بأية مبادرات تستهدف حاليًا وقف إطلاق النار كُليًّا، دون أن يحوزوا مأرب كاملةً، مهما كلفهم الأمر من عتادٍ وخسائر هي الأكبر في الأرواح حتى الآن؛ فدولة دون نفط، وميناء، ومنفذ بحري لا تُرضي طموح الحوثيين لمستقبل اليمن ما بعد الحرب، وسبق أن رفضت الجماعة عام 2014 صيغة الأقاليم الستة التي اقترحها الرئيس اليمني المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، لتحويل اليمن إلى النظام الفيدرالي، وكان مبرر الحوثيين يستند وقتها إلى أنَّ إقليم «أزال» الذي مُنح لهم كان الأفقر من حيث الموارد مقارنة بالأقاليم الأخرى، ويمتلك الحوثيون مشروعًا مُعلنًا يتسم بفرض النفوذ بالقوة.
عضو المكتب السياسي للحوثي، محمد البخيتي، أعلن سببًا آخر ليس مُعلنًا للرفض الحوثي للمبادرة السعودية؛ فبينما تقول الرواية الرسمية للجماعة إن المبادرة لم تقدم جديدًا، يقول «البخيتي» إنَّ إعادة طرح السعودية لورقة السلام في ذلك التوقيت تحديدًا، يعني أنها تريد تعويض كافة خسائرها العسكرية في سنوات الحرب عبر مبادرة مشروطة تمنحها نفوذًا خسرته طوال سنوات المعارك.
أحد الأسباب التي تجعل الحوثيين يرفضون مبادرات السلام السعودية هي أنها تأتي في توقيت سيئ للسعودية على المستوى الدولي، في ظل تغيير الإدارة الأمريكية بوصول الرئيس بايدن، الذي بدأ عهده بوقف دعم بلاده للعمليات العسكرية في اليمن تزامنًا مع تقارب حوثي أمريكي محتمل، عكس معه تغييرًا في الرؤية السياسية الأمريكية التي تسعى في الوقت نفسه لتقارب مماثل مع طهران – الداعم الأكبر للحوثيين – بهدف العودة للاتفاق النووي الذي سبق وانسحبت منه إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق، دونالد ترامب.
الرؤية السابقة يطرحها الباحث الباحث اليمني في مركز الجزيرة للدراسات، عبد اللطيف حيدر، في حديثه لـ«ساسة بوست» قائلًا: «تسعى الإدارة الأمريكية الجديدة لكسب دعاية إنهاء حرب اليمن، إضافة إلى منح الحوثيين دورًا كبيرًا حول آلية الحل في أي تفاهمات قادمة، خصوصًا أنها تسعى إلى تقارب مع إيران»، و«حيدر» يعتقد أنَّ الحوثي يبحث عن حل، ويهدف للسلام وإيقاف الحرب، ولكن بشروط كاملة لا تقبل التفاوض عليها، بوصفهم الطرف المنتصر من تلك الحرب.
صرح مصدر صحفي حضر اجتماعات خاصة مع أطراف من الحكومة الشرعية اليمنية، لـ«ساسة بوست»: «هناك تخوف من جهة الحكومة الشرعية من حدوث اتفاق سري بين السعودية والحوثي، يقضي بوقف الأخير هجماته على السعودية بالصواريخ والطائرات المسيرة مقابل وقف الطائرات الحربية غاراتها الجوية»، ويضيف المصدر الذي رفض ذكر اسمه، أنَّ «السيناريو الأرجح المحتمل هو أن تواصل السعودية غارتها الجوية، ولكنها ستكون غير ذات قيمة بما سيسمح بتقدم الحوثي في مأرب ما سيغير سير المعارك ضد قوات الحكومة الشرعية التي تقاتل وحيدة على الأرض، بينما تعتمد على السعودية في سماء المعركة».
وسبق وصرَّح أحد مقاتلي جماعة الحوثي لـ«ساسة بوست» بأنَّ «أن أكثر من 70- 80% من القتلى الذين سقطوا في معارك مأرب قتلوا من جراء الغارات الجوية وليس بسبب المواجهة المباشرة على الأرض، ما يعني أنَّ أي سيناريو للتقارب سيؤدي لنتائج عكسية في سير المعارك ليست في صالح الحكومة الشرعية.
فخ السلام.. لماذا يرفض الحوثيون مبادرات السعودية؟
بعد ست سنواتٍ من الحرب، يجد الحوثيون أنفسهم هم المستفيد الأكثر من الصراع الذي عزز سيطرتهم على معظم شمال اليمن، في وقتٍ يشهد فيه الجنوب انقسامًا بين الحكومة الشرعية، والمجلس الانتقالي الداعم للانفصال، كما أنَّ السعودية والحكومة الشرعية لا تجمعهما أجندة واحدة بشأن الحرب، وفي وقتٍ يعزز فيه الحوثي سيطرته على الشمال دون مقاومة أو معارضة سياسية تُذكر، تكثر الاضطرابات في الجنوب الذي من المفترض أن يشهد استقرارًا سياسيًّا غائبًا في الحقيقة.
عبد الملك الحوثي، زعيم أنصار الله الحوثي
على الجانب الآخر، لم تُحقق السعودية أهدافها العسكرية من الحرب حتى الآن والمتمثلة في طرد الحوثيين من صنعاء، وإعادة الشرعية اليمنية المسلوبة منذ أواخر عام 2014، وتجد السعودية نفسها مستعدة لإطالة خسائرها العسكرية من أجل إجبار الحوثي على القبول بمبادرة سلام لا تفقد معها الرياض نفوذها فيما بعد الحرب، كما يحفظ لها ماء الوجه بأنها وافقت على إنهاء الحرب، ولم تُرغم على السلام.
الطرح السابق يتوافق مع المبادرة السعودية الأخيرة لوقف إطلاق النار والتي أشار وزير الخارجية السعودية لها بأنها تستند إلى المرجعيات الدولية ومخرجات الحوار اليمني الشامل والمبادرة الخليجية، وهو الشرط الرئيس الذي دفع الحوثي لرفض سلام مرجعيته «المبادرة الخليجية».
والمبادرة الخليجية هي مشروع اتفاق سياسي اقترحته دول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية في عام 2011، بهدف التعاطي السياسي مع الثورة اليمنية، وترتيب انتقال سياسي آمن للسلطة، وانتهت بخروج الرئيس السابق، علي عبد الله صالح، من المشهد دون محاكمة بعد حصوله على حصانة، إلى جانب تشكيل حكومة، وإجراء انتخابات رئاسية انتهت بوصول عبد ربه منصور هادي.
وتشترط المبادرة الخليجية في بندها العاشر أن: «تكون دول مجلس التعاون والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي شهودًا على تنفيذ هذا الاتفاق»، ويقول الحوثيون إن القبول بالمبادرة السعودية الحالية التي تستند في مرجعيتها إلى المبادرة الخليجية يعني شرعنة استمرار التدخل العسكري الخارجي، والاعتراف بالوصاية الدولية، برعاية سعودية مباشرة.
ليس هذا فقط ما دفع الحوثيين لرفض العرض السعودي، يقول الناطق الرسمي لجماعة أنصار الله في تصريح لوكالة «رويترز»: «فتح مطار صنعاء وميناء الحديدة حق من حقوقنا الإنسانية، وبالتالي لا ينبغي أن يستخدم أداة للضغط علينا»، في إشارة إلى رفض المقايضة بالجانب الإنساني الذي من المفترض ألا يدخل ضمن أية أعمال عسكرية.
يشير عضو المكتب السياسي للحوثيين، محمد البخيتي، إلى سببٍ آخر لرفض المبادرة كونها – على لسانه – لا تجعل السعودية طرفًا في الحرب، وأنَّ البنود تُلزم الحوثيين بوقف إطلاق النار، دون أن يشمل القرار وقف السعودية غاراتها على اليمن، بينما يرغب الحوثيون في أن تكون السعودية هي الطرف المكافئ لها في المفاوضات، وأن يجري اختيار دول حيادية من الجانبين برعاية أممية، للإشراف على وقف الحرب.
تجاهلت الخارجية الإيرانية بدورها الرد على المبادرة السعودية التي حظيت بدعمٍ عربي ودوليٍ لافت، واكتفت ببيانٍ بمناسبة دخول الحرب عامها السابع، أعلنت فيه دعمها أيه مبادرة سلام تكون قائمة على إنهاء الحرب، ووقف شامل لإطلاق النار، وإنهاء الاحتلال، ورفع الحصار الاقتصادي، وأن تسلم الأمور في نهاية المطاف إلى اليمنيين، من دون تدخلات خارجية لرسم مستقبلهم السياسي، وهي نفسها الشروط التي تضعها جماعة الحوثي لبدء محادثات السلام.
السعودية أم الحوثيون.. من يمتلك القدرة على فرض السلام؟
على مدار سنوات الحرب أطلقت السعودية والحوثيون مبادراتٍ للسلامٍ سبقتها نوايا جادة عبر وقف إطلاق النار، وبدء سريان هدنة من طرفٍ واحدٍ، لكنَّ كل تلك المبادرات باءت بالفشل في النهاية كون شروط السلام التي يفرضها كل طرف ليست في مصلحة الطرف الآخر فيما يخص مستقبل العملية السياسية بعد الحرب.
ومع انعدام خيارات السعودية كما يبدو لحمل الحوثيين على القبول بمبادرة سلام، يقول الصحافي اليمني عبد الكريم سُلطان لـ«ساسة بوست»: «لا أحد قادر حتى الآن على فرض شروطه على الآخر في تلك المرحلة، حتى الحوثيين برغم انتصاراتهم العسكرية الأخيرة، ولكي يفرض أحد شروطه على الآخر، يلزمه تجريد خصمه من أوراق القوة العسكرية والسياسية الضرورية التي يمتلكها».
يُراهنُ الحوثيون على أن التسوية السياسية لحرب اليمن ستعتمد على ما يمتلكه كل طرفٍ من موازين القوى، لذا فهم يبحثون من خلال المعارك عن حلٍّ نهائي لوجودهم وتمثيلهم السياسي في زمن ما بعد الحرب، وهو الشرط الذي ترفضه السعودية التي تعترف بتنامي القدرات العسكرية للحوثيين، بما يشكلُ نوعًا من الصعوبة في المفاوضات التي لم تخرج منها الرياض بأي مكسب إستراتيجي.
وبخلاف الاستماتة في المعارك والصمود الميداني الذي منح الحوثيين نفوذًا عسكريًّا، فالجماعة حصلت على شرعية أممية في الاعتراف بها عام 2018 عقب توقيع اتفاق «ستوكهولم»، الذي أنهى واحدة من أكبر المعارك الدموية في اليمن أثناء محاولة التحالف العربي انتزاع ميناء الحديدة الإستراتيجي – غرب اليمن – من أيدي الحوثيين، وفي أواخر العام الماضي اقترح المبعوث الأممي في اليمن، مارتن جريفيث، مسودة «الحل الشامل» التي رفضتها الحكومة اليمنية كونها تُثبت المناطق التي سيطر عليها الحوثيون تحت شرعية دولية.
اللافت أنَّ جماعة الحوثي التي رفضت عدة مبادرات سعودية لإيقاف الحرب، سبق وأعادت إطلاق مقترح مبادرة سلام العام الماضي، عُرفت بـ«وثيقة الحل الشامل» تشترط الوقف الكامل لإطلاق النار، وإنهاء الحظر الجوي والبري المفروض على المحافظات التي يسيطر عليها الحوثيون، وانسحاب السعودية نهائيًّا من اليمن، وفتح حوار يمني-يمني برعاية مباشرة من الأمم المتحدة، دون تدخل أية دولة في الشؤون الداخلية لليمن.
وفي ظل تأكيد الرياض على لسان سفيرها في اليمن إجراء محادثات يومية مع الحوثيين، فإنَّ المفاوضات لم تسفر عن توافق، بسبب أن المبادرة الحوثية – كما يبدو من بنودها المنشورة – تستهدف إقصاء النفوذ السعودي من مفاوضات الحل السياسي.
تعقيدات المشهد السياسي وعدم امتلاك كل طرف القدرة على إجبار خصمه على القبول بمبادرة السلام يجعل نهاية حرب اليمن متوقفة على حسم المعارك ميدانيًّا أولًا، في وقتٍ يرفض فيه الحوثيون كل المبادرات الأمريكية رغم تراجع واشنطن عن تصنيفهم بالإرهاب، ومن المرجح أن تستمر معارك مأرب حتى يتحقق للحوثيين الهدف المتمثل في تفوقهم السياسي والعسكري، وهو ما يضمن لها فرض ثقلهم ورؤيتهم في أية مفاوضات مستقبلية.
ووفق الفرضية السابقة فمعادلة الحرب أخف ضررًا على وطأتها من الدخول في مفاوضات سلام يفقد معها أحد الأطراف مكتسبات الحرب التي خاضها على مدار ست سنوات.