تعد أزمة نقص بعض الأدوية أو اختفائها في مصر أزمة متجددة، تظهر وتختفي، وترجع الردود الرسمية سبب نقص الدواء إلى ضغوط شركات الأدوية لرفع سعر الدواء، لكن نقص 1400 صنف دوائي يشير إلى وجود أزمة حرجة هيكلية يجب وضع حلول جذرية لها. ما يصعّب الأمر أن هناك أدوية تختفي وليس لها بدائل، مثل الإنسولين وألبان الأطفال؛ الأمر الذي جعل النقابة العامة للأطباء ترسل خطابًا ذات مرة للرئيس عبد الفتاح السيسي تطالبه بالتدخل لوضع حل للمشكلة.
على الجانب الآخر لا يمكن بالطبع النظر لأزمة نقص الدواء في مصر، ومنها أدوية حيوية بمعزل عن صناعة الدواء ككل في مصر، واحتكار الشركات متعددة الجنسيات لسوق الدواء العالمي، وغياب البحث العلمي في مصر والمنظومة العلاجية والدوائية ككل في ظل ميزانية لا تتعدى 3% من الناتج القومي أُعدت للصحة.
كلمة السر.. مصر لا تُصّنع المواد الخام الدوائية
ينقسم سوق الدواء المصري إلى قطاع عام، أو الشركات القابضة، وهي تغطي 19% فقط من احتياجات السوق، وقطاع خاص يمثله مستثمرون مصريون وأجانب. السبب الجوهري للأزمة هو أن صناعة الدواء في مصر قائمة على استيراد 10% من الأدوية في شكلها النهائي، واستيراد 85% من المواد الخام، ثم تصنيعها وتعبئتها وتغليفها حتى يصل الدواء لشكله النهائي، فنقص العملة الصعبة يؤدي بدوره إلى أزمة استيراد.
لكن السؤال هو لماذا لا تُصنّع مصر المواد الخام؟ وقد كانت مصر تنتج في الستينات 90% من السلع في سوق الدواء؛ فقد أنشأ عبد الناصر بمساعدة الاتحاد السوفيتي شركة النصر للكيماويات في أبو زعبل بمحافظة القليوبية، التي كانت أول مصنع في أفريقيا والشرق الأوسط لإنتاج المادة الخام الدوائية للمضادات الحيوية، فماذا حدث ليصبح الاكتفاء الذاتي الآن 5% فقط؟ وتصبح هناك أزمة دوائية طاحنة؟
وقبل الإجابة عن هذا السؤال من الضروري ذكر أن هناك أسبابًا أخرى لاختفاء بعض الأدوية أو نقصانها بالصيدليات لها علاقة بأزمة تسعير الدواء، بعد تعويم الجنيه، وما يسمى بـ«تعطيش» السوق، أو سحب بعض الشركات لبعض أدويتها من السوق، لتطرحه مرة أخرى بعد مدة بسعر أعلى، كما أوقفت بعض خطوط الإنتاج عددًا من الأصناف لعدم جدواها الاقتصادية. وهنا يتجلى الوجه القبيح للشركات العملاقة عندما يمتنع المستثمر الأجنبي عن إنتاج بعض الأصناف إذا لم يكن تدر قيمة ربحية.
تطور صناعة الدواء في مصر
بحسب دكتورة ناهد يوسف خبيرة صناعة الدواء في كتاب «دواء وعلل» الذي تسرد فيه قصة صناعة الأدوية من الازدهار إلى الأزمة. فإن جميع المصانع المصرية – والتي كانت في الغالب مصانع صغيرة – قبل تأميم قناة السويس كانت تنتج 5% فقط من احتياجات الشعب من الأدوية المختلفة، بينما يحتكر الوكلاء الأجانب استيراد وتخزين 95% من الأدوية اللازمة لعلاج الشعب المصري، وبعدها تكشف حجم الفساد الذي مارسوه بعدما غادروا البلاد، فقط كانوا يتلاعبون في أسعار الكيماويات والأدوية المستوردة.
تقول ناهد: «إبان التأميم تواطأ الكثير من وكلاء شركات الأدوية الأجنبية مع المعتدين وتلاعبوا في استيراد الأدوية الاستراتيجية الهامة لإحراج الحكومة لتعجز عن تدبير الاحتياجات الدوائية الأساسية»، لكن في الاتجاه الآخر – على حد قولها – «تدخلت الدولة وأمّمت الشركات والمصانع، وأنشأت الهيئة العليا للأدوية التي أعدت قائمة بالمستحضرات المستوردة، وكان عددها آنذاك 50 ألف مستحضر، بعضها مستورد من مصانع أدوية مغمورة، قبل أن تُصفى إلى 5 آلاف فقط بعد إسقاط المستحضرات المقررة، وغير الموثوق في مصدرها».
وأُسند استيراد وتوزيع هذه المستحضرات إلى الشركة العامة للتجارة والكيماويات بعد تأميمها. الدور المهم لهيئة الدواء – كما أوضحت ناهد – هو تحقيق التنمية المستقلة عن طريق تقزيم الشركات الأجنبية فكانت الهيئة لا تسمح بترخيص أي دواء أجنبي جديد، إلا إذا عجزت الشركات المحلية عن إنتاجه، وكان لمنح الترخيص شروط مثل تدريب العاملين المصريين بمصانع الشركات الأجنبية على تصنيع المستحضر، وتحديد سبل الدعاية، وتحديد التسعير عن طريقة لجنة التسعير التابعة لوزارة الصحة.
شبّت صناعة الدواء في هذه الفترة وتوسعت مصانع الأدوية، أُنشأت ثمانية مصانع من بينها شركة النيل للأدوية، التي ضمت مصنعي «إيزيس وإيكاديل» اللذين كانا ملكًا ليهود أجانب قبل التأميم، وبعد اندماجهما صارا نواة لأكبر مصنع بالشرق الأوسط بمنطقة الأميرية، بدأ عمله في عام 1964. وأُلحق بالنيل مصنع للأمبولات ومصنع تعبئة مضادات حيوية، كانت هناك شركات أخرى مثل: شركة مصر للمستحضرات الطبية، وشركة «ممفيس» للأدوية، وشركة تنمية الصناعات الكيميائية والدوائية (سيد)، وشركة الإسكندرية للأدوية، وشركة القاهرة للأدوية، والشركة العربية للأدوية، والجمهورية.
هل ثمة حلول ممكنة؟
لكن صناعة الدواء – بحسب ناهد – قُضي عليها وهي تتلمس أولى خطواتها، بدأت صناعة الدواء في مصر في التدهور والتراجع بدءًا من السبعينات واستمرت في عهد مبارك؛ وتقول ناهد: «إن سياسات تشجيع القطاع الخاص التي تبناها السادات أثرت بشكل هائل على صناعة الدواء».
أتاحت هذه السياسات هجوم الشركات الأجنبية بوحشية على سوق الدواء المصري، فقد كانت الاتفاقات المبرمة للتصنيع مع القطاع العام لتصنيع مستحضراتها بموجب ترخيص، من دون شروط تحمي المستحضر المصري المماثل (البديل المصري)، فأثرت بطبيعة الحال على المنتج المصري، وأغرقت سوق الدواء، وزادت الموافقات على إنتاج مستحضرات الشركات الأجنبية المثيلة للمستحضرات المصرية. واليوم أصبحت جميع الشركات المصرية الثمانية المملوكة لقطاع الأعمال تنتج فقط 5% من سوق الأدوية المصرية.
ما يقترحه خبراء الدواء لإنهاء هذه الأزمة من أساسها هو بدايةً إنشاء هيئة ما تابعة لوزارة الصحة تختص بأزمة نقص الدواء، وتراقب كميات الأدوية والمخزون المتوفر في السوق، ومجلس أعلى للدواء يجمع كل الهيئات الخاصة بالدواء في كيان واحد، وتعديل سياسة التسعير التي تربط سعر الأدوية بدول أخرى دون مراعاة فروق متوسط الدخل، ووضع حل للتسعيرات التي تسمح بوجود عدة بدائل لنفس الدواء بفرق سعر كبير.
لكن برأي هؤلاء أيضًَا تظل نواة الأزمة كما هي، التبعية لمصالح الشركات الأجنبية؛ لأنه لا توجد صناعة دواء في مصر، هي فقط تعبئة وتغليف، ولن تكون هناك صناعة دون بحث وتطوير علمي.