سجَّل الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2017 حادث إطلاق النار الأكثر دموية في تاريخ الولايات المتحدة الأمريكية؛ ربما هناك حوادث أخرى خلَّفت عددًا أكبر من الضحايا؛ مثل حادث 11 سبتمبر (أيلول) 2001 على سبيل المثال، ولكن المؤكد أن الحادث الأكبر لإطلاق النار بطريقة جماعية هو ذلك الحادث الذي جرى في مدينة لاس فيجاس، بولاية نيفادا الأمريكية في الساعات الأخيرة من مساء الأحد الماضي؛ ففي العاشرة مساءً، أطلق أحد الأفراد النيران بطريقة جماعية وعشوائية على حشد مكوَّن من 22 ألف فرد، في الطابق 32 من منتجع وكازينو خليج ماندالي، وذلك في حفلة موسيقية في الهواء الطلق.

بينما كان يغني الموسيقي جايسون ألديان، دوي صوت إطلاق رصاصات نارية عديدة ومتتالية استمرت لفترة وُصفت بالقليلة؛ حيث أكد عدد من شهود العيان أن إطلاق النار استمر لفترة تراوحت بين عشرة و15 دقيقة كاملة ولم تتوقف، وهو ما تميل الشرطة الفيدرالية إلى اعتباره الأقرب إلى الصواب؛ حيث أكدوا أن إطلاق النار استمر لمدة تراوحت بين 11 و 14 دقيقة بعد أول مكالمة لهم؛ أي أن أربع دقائق بين إطلاق أول رصاصة إلى أن استجمع أحدهم قواه واستطاع مهاتفة الشرطة هي فترة معقولة، كما وصف المغني صوت إطلاق النار كما لو كان شخصًا يطلق النار على الأسماك في برميل.

حصيلة الحادث وصلت إلى 58 قتيلًا حتى الآن، بالإضافة إلى أكثر من 500 مصاب.

«داعش» تعلن مسؤوليتها

أعلنت الشرطة أن مطلق النار هو ستيفن بادوك، البالغ من العمر 64 عامًا، وهو محاسب متقاعد، ومطلق بدون أطفال، وأطلق بادوك النار من شرفة غرفته في فندق مانديلا باي بلاس فيجاس، وأثناء إطلاقه النار على الحشد، أصابه أحد أفراد الأمن في قدمه، إلا أنه عند اقتحام غرفته، وجدته الشرطة مقتولًا؛ حيث تميل الشرطة إلى أن يكون قد قتل نفسه.

في الوقت نفسه، أعلن «تنظيم الدولة الإسلامية -داعش»، تبنيه للحادث ومسؤوليته عنه؛ حيث نشرت وكالة التنظم شبه الرسمية (أعماق) بيانًا للتنظيم بعنوان «نحو 600 هالك ومصاب من عباد الصليب بهجوم مبارك في مدينة لاس فيجاس الأمريكية» مؤكدًا أن الحادث جاء استجابةً لدعوة أبو بكر البغدادي باستهداف دول التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، والذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.

ووصف بيان تنظيم الدولة بأن الفاعل هو «أحد جنود الدولة الإسلامية»، والذي أطلقت عليه «أبو عبد البر الأمريكي»، مؤكدًا أنه كان محملًا بأسلحة رشاشة وذخائر متنوعة، وأطلق النيران على الحشد الحاضر للحفل الموسيقي حتى انتهت ذخيرته و«ترجَّل شهيدًا»، بحسب البيان.

غير أن مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي نفى أية صلة بين الحادث وبين ما وصفه بأية «مجموعة إرهابية دولية»، وهو ما استبعده أيضًا قائد شرطة لاس فيجاس جوزيف لومبادرو، إلا أنه أكد في الوقت ذاته على عدم تمكن السلطات الأمنية بعد من معرفة طبيعة المعتقدات التي يؤمن بها منفذ الهجوم.

ما دلالات أن تنظيم الدولة ليس هو الفاعل؟

استبعدت الشرطة الفيدرالية أن يكون الحادث «عملًا إرهابيًا»، مؤكدةً أنه حادث قام به رجل مسلح، ولم يكن إرهابيًا، كما أكدت أن تنظيم الدولة ليس هو الفاعل، وليس هو المدبر لهذا الحادث؛ وذلك بالرغم من إعلان التنظيم مسؤوليته وتبنيه للحادث.

فمن ناحية مرتكب الحادث نفسه؛ ستيفن بادوك، أكد المحققون أنه كان يعيش حياة عادية وليس له سجل إجرامي، بل لم يسبق له أن خالف القوانين إلا بمخالفات مرورية بسيطة، كما أنه في الوقت نفسه، لم يكن لديه تعصب سياسي أو ديني، كما استبعدوا أن يكون قد غيَّر ديانته إلى الإسلام قبل عدة أشهر كما زعم تنظيم الدولة (داعش)، وهو ما أكد عليه شقيقه، إريك بادوك، في وقتٍ لاحق.

الجدير بالذكر أن أبرز معلومة أوردتها وسائل الإعلام الأميركية بشأن بادوك، هي أن والده كان يومًا ما على قائمة أهم المطلوبين لمكتب التحقيقات الفدرالي؛ حيث أكدت نيويورك تايمز أن بنجامين بادوك، والد منفذ الهجوم ستيفن بادوك، احترف السطو على البنوك وحكم عليه بالسجن، ولكنه فر منه عام 1968. ويبدو أن بنجامين لم يكن حاضرًا ومؤثرًا في حياة أبنائه، كما قالت الصحيفة.

وباستثناء تلك التفاصيل، لم يتبين أي شيء لافت في حياة مطلق النار سوى أنه كان مولعًا بالقمار، وكان يقامر بمبالغ كبيرة ويربح أحيانًا مبالغ طائلة في لعبة واحدة، كما كان يمتلك منازل في أربع ولايات أميركية. من جانبه، قال إريك بادوك، شقيق القاتل، إن ستيفن لم يكن لديه أي مشاكل على الإطلاق وليس لديه أي تاريخ مع العنف، مشيرًا إلى أنه تزوج وطلق مرتين، وزوجتيه السابقتين تشهدان بذلك.

عادةً ما يتمركز قادة داعش في دولٍ ثلاث؛ هي العراق، وسوريا، وليبيا؛ غير أن بادوك، منفذ الهجوم، أيضًا لم يسافر إلى أي منهم طوال حياته، على عكس كل مرتكبي ومنفذي هجمات التنظيم حول العالم، بمن فيهم الانتحاري الذي قام بتفجير نفسه في حفل المغنية الأمريكية أريانا جراندي في مدينة مانشستر بإنجلترا، والذي أسفر عن مقتل 22 شخص في وقتٍ سابق من العام الجاري.

الأمر الآخر الخاص ببادوك، هو أن عمره 64 عامًا، بينما متوسط أعمار من يعُرفون إعلاميًا بإسم جنود الدولة الإسلامية، ومنفذي هجمات تنظيم داعش، هو 28 عامًا، قد يزيدوا أو يقلوا قليلًا، ولكن 64 عامًا هو رقم جديد جدًا على التنظيم.

ومن ناحية تنظيم الدولة نفسه، فإن التنظيم اعتاد على عدة أمور عادةً ما يفعلها عند إعلان مسؤوليته عن حادثٍ ما؛ فمثلًا عادةً ما تكون بيانات التنظيم مُفصَّلة وبها كل تفاصيل الحادث، غير أنها عادةً ما تكون مصحوبة بصورة لمرتكبها في أحد معسكراته أو لقاءاته بقادة التنظيم. وأيضًا، النقطة الأهم هنا هي أن التنظيم عادةً ما يبث مقاطع قصيرة مسجلة لمرتكبي الحوادث قبل وقوعها وهم يعلنون نيتهم وعزمهم على القيام بالعملية. كل هذه العادات الخاصة بتنظيم الدولة عند إعلان تبنيه لحادث معين لم توجد هنا؛ حيث أن بيان التبني كان محدودًا، ومختصرًا، لم يقدم جديدًا عن الذي أعلنته وسائل الإعلام والشرطة الفيدرالية، كما أنه لم يكن مصحوبًا بأي مقاطع؛ لا مقاطع من كاميرات خاصة لتصوير الحادث، ولا مقاطع لمنفذ الهجوم معلنًا نيته تنفيذه.

وبالتفكير في الجانبين المختلفين؛ من جانب منفذ الهجوم نفسه، ومن جانب تنظيم الدولة، فيبدو أن الأمر مختلف هذه المرة.

هل تكذب داعش من أجل المجد أم بسبب الضعف؟

نفى مكتب التحقيق الفيدرالي، إف بي آي، أن تكون هناك أية صلة بين تنظيم الدولة (داعش)، وستيفن بادوك، منفذ هجوم لاس فيجاس، واصفًا إعلان التنظيم مسؤوليته عن الحادث مجرد ادعاءات كاذبة، مرجعين ذلك إلى عدم وجود ولو دليل واحد بثه التنظيم ويدل على وجود صلة أو حتى تنسيق بين منفذ الحادث والتنظيم، ومؤكدين أن سبب تبني داعش للهجوم كان من أجل التباهي في العالم، ومن أجل تخويف المواطنين في الدول المشاركة في التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة، وخاصةً في الوقت الذي تعتبر داعش في أضعف أوضاعها منذ تأسيسها قبل حوالي ثلاث سنوات.

التباهي أو الفخر بما لم تفعله داعش جاء في الوقت الذي استطاع فيه الجيش العراقي مدعومًا عربيًا، وإقليميًا، ودوليًا، من إعادة السيطرة من جديد على مدينة الموصل العراقية، واسترجاعها من عناصر تنظيم الدولة؛ حيث قُتل بعضهم، وأُسر بعضهم، وفرّ البقية. وفي الوقت نفسه، ما زالت هناك معركة الرقة في سوريا، وهي معركة تحرير المدينة من أيدي عناصر تنظيم الدولة أيضًا، والتي يشارك فيها قوات سورية، وكردية، وغيرهم. مدينة الرقة التي تعتبر عاصمة تنظيم الدولة هي الملاذ الأخير لهم في منطقة الشام، فإن سقطت فقد تعني سقوط التنظيم في العالم كله، قد يتبقى له عناصر متفرقة في دولٍ عدة من أنحاء العالم، ولكنه لم يعد قادرًا على السيطرة والتحكم مثلما كان الوضع في الرقة والموصل، وغيرهم من المدن في العراق والشام. وبالتالي، فإن تبني حادث كهذا كان من أجل الحصول على قيمة الدعايا، ومحاولات التأكيد على أن التنظيم ما زال قويًا وموجودًا في دول متعددة بالرغم من هزائم الشام، خاصةً وأنه في خلال 143 حادث دولي ارتكبه تنظيم الدولة الإسلامية في العديد من دول العالم، وتحديدًا في 29 دولة، خلفوا حوالي 2050 قتيل، إلا أنه لم يسبق لأحد أن يؤكد عدم صدق التنظيم عند صدور إعلانه بتبني الحادث.

الجدير بالذكر أن حادث لاس فيجاس لم يكن الأول الأول الذي تتبناه داعش، بالرغم من أنها ليست الفاعلة؛ ففي الثاني من يونيو (حزيران) الماضي، وتحديدًا في منتجع ومجموع سياحي في مانيلا بالفلبين، أعلن تنظيم الدولة (داعش) تبنيه للهجوم الذي أسفر عن مقتل 37 شخص، بعد أن أطلق مسلح وحيد النار على طاولات القمار ومن يجلس عليها في الساعات الأولى من الصباح حينها. الغريب في هذا الحادث أيضًا أنه لم يذكر التنظيم حينها نفس المؤشرات التي ذكرناها في هذا التقرير؛ فلم ينشر الأسماء الخاصة بـ«جنود التنظيم» الذي زعم أنهم منفذو الهجوم، كما أنه لم ينشر أي مقاطع مصورة؛ لا مقاطع من كاميرات خاصة لتصوير الحادث، ولا مقاطع لمنفذي الهجوم معلنين نيتهم تنفيذه.

ومرَّت الأيام حتى تم التأكد من أن مرتكب الحادث هو فرد واحد فقط، ويدعى جيسي كارلوس، ولم يكن له أية صلة بين تنظيم الدولة، وإنما كان مجرد موظف حكومي ساخط على الأوضاع الاجتماعية، وعلى خسارته في القمار. ولكن التنظيم في البداية أصر على استغلال الهجوم للتأكيد على وجوده في دولة كالفلبين، بالإضافة إلى استغلاله لأنشطة دعائية خاصة بالتنظيم، خاصةً في ظل وجود أخبار حينها بوجود عناصر للتنظيم في مدينة مراوي الفلبينية.

المصادر

تحميل المزيد