تُعتَبَر «الدولة» كيانًا جديدًا نسبيًا على الساحة الإنسانية، حيث نشأت قبل حوالي 6 آلاف عام فقط، بينما البشرية كما نعرفها اليوم موجودة منذ ما يقرب من 200 ألف عام، وتشير الأدلة المُكتَشفَة مؤخرًا إلى أن البشر قد يكونوا أكبر سنًا بكثير (300 ألف عام).
ولـ«الدولة الحديثة» نشأتها الفريدة فوق أطلال سلطة الكنيسة على السياسة، وصعودها المميز من رحم الحروب الدينية الدموية التي استمرت 30 عامًا في أوروبا وانتهت بـ«اتفاقية وستفاليا» في عام 1648. ومنذ ذلك الحين، باتت «الدولة» إحدى الحقائق التي رسخت تدريجيًّا في الحياة السياسية المعاصرة، وأصبحت تشكل اللبنة الأولى في بنية النظام الدولي الراهن.
أحد أبرع الصور التي تجسد هذا النفوذ، رسمها المؤرخ الأمريكي جوزيف ريز ستراير، حين قال: «يمكن للمرء أن يعيش حياة كاملة ومعقولة بدون أسرة أو محل إقامة محلي ثابت أو انتماء ديني، لكن إذا كان عديم الجنسية فهو لا شيء. ليس لديه حقوق ولا أمن ولا حتى فرصة ضئيلة لأن يحظى بمهنة مفيدة. لا يوجد خلاص على الأرض خارج إطار الدولة المنظمة».
برغم هذا التوغُّل والتغوُّل، لا يكاد يُجمِع اثنان على توصيفٍ جامعٍ ومانع للدولة في ثوبها الحديث، حتى بات إيجاد تعريف واحد لمفهوم الدولة الحديثة بمثابة خوض صراع أيديولوجي؛ كون التعريفات المتباينة ناتجة عن نظريات مختلفة لوظيفة الدولة؛ مما يولد استراتيجيات سياسية ونتائج مختلفة.
بل إن مفهوم «الحداثة» ذاته مُربِك؛ لأن ما نسميه «حديثًا» اليوم، سيكون عفا عليه الزمن بعد بضعة عقود أو قرن، وهذا للمفارقة ما أكده عالم السياسة والاجتماع ر. م. ماكلفر في عام 1926. لهذا السبب تحديدُا، يحاول علماء السياسة والباحثين اليوم تجنب استخدام مصطلح «الدولة الحديثة»، على الرغم من أن هذا الكيان لا يزال المظلة الأكثر قبولا في العالم، أو على الأقل يطارد وجوده الجميع، على النحو العميق الذي أوضحه جوزيف ريز ستراير.
كما أن الدولة الحديثة، التي هي كيان واحد تندمج فيه وظائف اجتماعية وسياسية واقتصادية كانت موزعة سابقًا على عدة مؤسسات منفصلة، «ليست سمة دائمة أو حتمية للمجتمع البشري»، كما يقول ديفيد س. داماتو، أستاذ القانون وعضو مجلس المستشارين السياسيين لمعهد هارتلاند.
ورغم رسوخ تجليات الدولة الحديثة، إلا أن الخريطة السياسية العالمية تغيّرت ثلاث مرات خلال القرن العشرين، ولم يستقر التقسيم السياسي للعالم على شكل يمكن اعتباره نهائيًا حتى الآن؛ فلا تزال احتمالات الوحدة والاندماج بين الدول، وكذلك احتمالات التفكك والانقسام والانفصال داخل الدول القائمة حاليًا، أمرًا واردًا.
«قدس الأقداس».. إشكالية «احتكار القوة» في الدولة الحديثة
أكثر التعريفات شيوعًا لمفهوم الدولة ينص على قيمة «احتكار القوة»؛ سواء التعريف الأشهر للمفكر الألماني ماكس فيبر، بأنها «منظمة سياسية إلزامية، تديرها حكومة مركزية، تحافظ على الاستخدام الشرعي للقوة، داخل حدود معينة من الأراضي»، أو تعريف فقهاء القانون الدستوري بأنها «كيان إقليمي يمتلك السيادة داخل الحدود وخارجها، ويحتكر قوى وأدوات الإكراه».
هذا الاحتكار للقوة، يثير العديد من الإشكاليات، أبرزها: إلى أي مدى يمكن أن تذهب الدولة في استغلال هذه القوة المطلقة؟ وفي المقابل، إلى أي مدى يمكن أن تحتفظ الدولة بهذه الميزة الرئيسة في ظل وجود مجموعات دينية أو عرقية، ربما أكثر قوة من الدولة ذاتها؟ مثلما هو الحال في لبنان.
غير أن فكرة «احتكار العنف» التي تعود إلى عالم الاجتماع الألماني، ماكس فيبر، وتحديدًا إلى محاضرته «السياسة كدعوة» التي ألقاها في عام 1917، تفرض إشكالية يشرحها جويل ميجدال، مؤلف كتاب «الدولة داخل المجتمع»، قائلًا: إنّ هذه الرؤية تجعل من المجتمع إمّا خاضعا لهيمنة تشكيل اجتماعي واحد يحدّد له القواعد ويمتلك وسائل القوة لفرض هذه القواعد، وإلا فإنّنا أمام دول فاشلة أو لا دول.
وفق هذا التعريف «الفيبريّ»؛ فإن صعود «حزب الله»، أولا كمجموعة دينية متشددة ثم كقوة سياسية، يهز أركان «المفهوم الوستفالي» للدولة القومية الحديثة، باعتباره كيانًا أقوى من الدولة اللبنانية ذاتها. حتى لو اعترض البعض على تحويل السلاح إلى «قدس الأقداس»، وتساءلوا باستهجان: إذا تخلت هذه المجموعات عن سلاحها، فهل سيتراجع الآخرون عن «قداسة الدولة الفيبرية»؟
هذا يقودنا إلى مفهوم «المصلحة الوطنية»، التي تجادل الفيلسوفة الفرنسية سيمون ويل أنه «لا يمكن تعريفها باعتبارها المصلحة المشتركة بين الشركات الصناعية والتجارية والمالية لبلد ما؛ لأنه لا توجد مثل هذه المصلحة المشتركة. ولا يمكن تعريفها باعتبارها حرية المواطنين ورفاههم؛ لأنهم يتعرضون باستمرار للتضحية برفاههم وحريتهم وحياتهم من أجل المصلحة الوطنية»: وباستقراء التاريخ الحديث، وصلت سيمون ويل إلى الاستنتاج التالي: أن «المصلحة الوطنية لكل دولة تتمثل في قدرتها على شن الحرب».

مقاتلون من «حزب الله» اللبناني في «يوم القدس العالمي»
هذه القدرة ذاتها هي محور شكوى اللبنانيين من سيطرة «حزب الله»، الذي يتمتع بنفوذ كبير في العديد من المؤسسات الرئيسية، ليس فقط في القوات المسلحة اللبنانية ولكن أيضًا في الدوائر الاستخباراتية. وتحكي تصرفات «حزب الله» على الأرض قصة مختلفة عن القصة التي يروج لها في خطابه الرسمي، كما كتب الباحث اللبناني باسل صلوخ وآخرون في عام 2015.
لكن كيف لهذا البلد الصغير الذي ربما لا يتجاوز عدد سكانه 5 ملايين نسمة – أقل من عدد سكان لندن، وأصغر من مقاطعات لا تملك النفط ولا القوة العسكرية – أن يشكل هذا الهاجس ويسيطر بشكل متكرر على أسابيع كاملة من أعمال مجلس الأمن الدولي؟ وفي المقابل، كيف يستمر لبنان على قيد الحياة حتى اليوم برغم تناقضاته الأصيلة؟
ربما تلقت لبنان ضربة قاسية خلال الحرب الأهلية التي استمرت 15 سنة، لكنها أغنى بكثير من جارتها الكبيرة سوريا، وتتمتع بدرجة من الحرية السياسية، ويمكن اعتبار مجتمعها متسامحًا، بمعايير المنطقة، حسبما تذهب أسبوعية «إيكونوميست» البريطانية. حتى المسيحيون والسنة والشيعة، الذي يشكل كل فريق منهم حوالي ثلث السكان، وجدوا بشكل أو بآخر طريقة للتعايش على الرغم من انقساماتهم في الداخل والاضطرابات المحيطة بهم في الخارج.
ويقول البعض سارخًا: سيكون اللبنانيون أغنياء إذا حصلوا على جنيه واحد في كل مرة وصفت فيها بلادهم بأنها «على وشك الانهيار العنيف». حيث لم تسقط لبنان في الهاوية عندما دخل «حزب الله» في الحرب لدعم الأسد، ولا عندما استخدم المتمردون السنة في سوريا شمال لبنان كممر لعبور أسلحتهم، واستمرت الدولة على الرغم من تدفق أكثر من مليون لاجئ سوري، يمثلون الآن خمس إجمالي السكان.
وإذا كانت سوريا الأسد تصف نفسها بأنها «قلب العروبة النابض»، فليتفاخر لبنان بكونه «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط». لكن أي شخص عاش في بيروت بقدر الصحفي البريطاني المخضرم روبرت فيسك – أكثر من 30 عامًا – يلمس ظاهرة غريبة يمكن تسميتها متلازمة «السؤال الواضح»، وهي: الإدراك المروع بأن بعض حقائق الحياة الاستثنائية لم تُدرَس بجدية أو تحظى بالتأمل الكافي.
هل تلبي إثيوبيا الشروط «الفيبرية» للدولة «الوستفاليّة»؟
تواجه إثيوبيا تحديًا في تلبية «الشروط الفيبرية»؛ ببساطة لأنها دولة تضم أكثر من 100 مليون شخص، ينتمون إلى أكثر من 80 مجموعة عرقية، ويتحدثون العديد من اللغات، ويخوضون صراعًا دمويًا، لا يفتأ يهدأ حتى يثور من جديد.
حين صعد آبي أحمد إلى السلطة في الثاني من أبريل (نيسان) عام 2018، كانت إثيوبيا على شفا كارثة كبرى، بعد ثلاث سنوات من الاحتجاجات المستمرة في مناطق الأورومو والأمهرة، مما أدى إلى زيادة العنف العرقي وتدهور الاقتصاد.
كان ظهور زعيم إصلاحي شاب سببًا للتفاؤل بالمستقبل، وقد بدا خلال الأشهر الأولى أنه على قدر التوقعات، بعدما أحدث تغييرًا كبيرًا على المستويين الداخلي والخارجي. لكن على الرغم من التقدم الكبير الذي أحرزه رئيس الوزراء الشاب على العديد من الجبهات، لا تزال القضايا التي تسببت في إثارة التوترات العرقية والاحتجاجات الجماعية والعنف في الماضي، مثل: النزوح وهدم المنازل في المنطقة المحيطة بأديس أبابا، دون حل.
ولم يتوقف شبح الصراع عن التحليق فوق عدة مناطق؛ فلم تتراجع المجموعات العرقية المختلفة عن المطالبة بتشكيل حكمها خاص بموجب النظام الفيدرالي، ما يهدد بتحويل إثيوبيا إلى يوغوسلافيا أخرى، حسبما تحذر دورية «فورين بوليسي»، وبالتالي زعزعة هذا القدر الهش من الاستقرار الذي حققه آبي أحمد، وإلقاء البلاد في أتون صراع عرقي.
كما تسببت الاغتيالات التي استهدفت كبار القادة السياسيين والعسكريين في إثيوبيا مؤخرًا في إثارة الذعر في جميع أنحاء البلاد، مما يلقي بظلاله على العملية الانتقالية. وهذه الحوادث ليست سوى انعكاس للمشاكل العميقة التي تواجه البلاد، على الرغم من الإصلاحات السياسية.

رئيس الوزراء الأثيوبي آبي أحمد
وبعض هذه التحديات عميقة الجذور، وتقف كشوكة في حلق الدولة، مثل: التوترات العرقية وأعمال العنف التي تسببت في تشريد حوالي مليون شخص في جنوب إثيوبيا فقط خلال الصيف الماضي، وقضايا الحكم الفيدرالي، والجدال المستعر حول ملكية الأراضي.
وإذا قررت حكومة جريئة دفع الإصلاحات قُدُمًا، دون وضع هذه السمات الإثيوبية الفريدة في الاعتبار، فقد تزداد النزاعات العرقية سواء كنتيجة لرد الفعل العنيف من جانب القوى المحافظة التي ترفض الإصلاحات السريعة، أو بسبب التحرير المفاجئ للفضاء العام.
ذلك أن تمكين المجموعات العرقية من خلال الحكم الذاتي بمثابة «سيف ذي حدين»: فبينما يقلل الحكم الذاتي من التوترات الناجمة عن هيمنة مجموعة معينة، فإنه يضع الانتماء العرقي في قلب السياسة، ويربطها بالأراضي، وبالتالي يخاطر بزيادة التوترات العرقية في نهاية المطاف.
وترجع صعوبة إعادة ترتيب المشهد السياسي في إثيوبيا إلى أربعة أسباب:
- أولًا: فقدت الدولة بعض الاستقلالية؛ لأن الخط الفاصل بين الهياكل الحكومية والحزبية – وشبكات الاحتجاج التي دفعتها إلى التحرر – غير واضح في بعض المناطق.
- ثانيًا: توازن القوى بين الحكومة الفيدرالية والوحدات المكونة لها قد اضطرب مؤخرًا، دون وجود أي بديل يمكن التوافق عليه عبر المفاوضات.
- ثالثًا: التحالف الحاكم منقسم داخليًا حول الفلسفة والأساليب.
- رابعًا: لا يزال الخط الحكومي الفاصل بين التمسك بسيادة القانون والعودة إلى الاستبداد غير واضح.
وكي تحقق إثيوبيا الديمقراطية، وتحافظ على الأمن، وترسخ سيادة القانون؛ يجب عليها أولا إعادة تأكيد السيطرة في مواجهة القوى العرقية المتصارعة، ما يتطلب إعادة تنظيم جذري للحزب الحاكم من أجل تحقيق توافق داخلي على رؤية ديمقراطية جديدة موحدة.
لكن حين تشتعل جذوة العنف، وترفع القوى المتصارعة السلاح، تجد الدولة نفسها مجبرة على إنفاق جزء كبير من مواردها الشحيحة لمكافحة الهجمات، وتبديد شطر كبير من عمرها في الإصلاح بين الشركاء المتشاكسين – إن لم تكن هي ذاتها طرفًا في الصراع – ما يؤدي إلى إعاقة تقدمها على الدوام.
وظيفة الدولة.. بين الحريات الفردية والمسؤوليات الحكومية
منذ سنوات عديدة (في ثلاثينيات القرن الماضي)، قال البروفيسور لاسكي إن «على الدولة أن تقوم ببعض الأعمال الأساسية لمواطنيها، وإلا فإن الناس قد يشككون في جدواها وجدارتها».
لكن بينما ينادي المدافعون عن سياسة عدم التدخل بأن تقوم الدولة بأداء الحد الأدنى من الوظائف، حتى يتمكن الأفراد من الحصول على أقصى قدر من الحرية، يعترض الاشتراكيون على هذا الرأي قائلين إن الدولة إذا كانت تريد ضمان أقصى قدر من الرفاهية، فلا ينبغي أن تعرقل حركتها بأي قيود.
لم ينته هذا الجدل حتى اليوم، ولا نهاية له في الأفق. والمشكلة هي أن الجدل يحتدم في كل الأحوال؛ فإذا تدخلت الدولة على الأرض انتقدها الليبراليون لأنها تعرض حرية الإنسان للخطر، وإذا فشلت الدولة، انتقدها الاشتراكيون لأنها تقاعست عن القيام بالحد الأدنى من مسؤوليتها.
ثمة مفارقة وظيفية تستحق التأمُّل في حالة لبنان؛ التي تديرها حكومة مركزية ضعيفة، بموجب اتفاق تقاسم السلطة الذي أنهى الحرب في عام 1990، وتتأخر انتخاباتها البرلمانية بسبب عدم وجود قانون ينظمها، ويتشاجر السياسيون حول اختيار رئيس جديد لأشهر. تكمن المفارقة في أن الشركات العاملة في لبنان، والتي أثبتت في أكثر من مرحلة أنها تعرف من أين تؤكل الكتف، وجدت طرقًا مبتكرة للتغلب على هذه العوائق وغيرها من الإشكاليات مثل الفساد أو انقطاع التيار الكهربائي.
فعندما تفشل الدولة في توفير الخدمات، يسد رواد الأعمال الفجوة، ولا أوضح على ذلك من أن معظم اللبنانيين يحصلون على تعليم عالٍ، رغم أن 30% فقط من الأطفال يذهبون إلى المدارس الحكومية.
ولطالما كان دور الدولة في الاقتصاد مثيرًا للجدل منذ أيام مؤسس علم الاقتصاد الكلاسيكي، آدم سميث، الذي يجادل بأن الدولة يجب أن تعتمد سياسة عدم التدخل في الشؤون الاقتصادية التي ينبغي أن تكون من اختصاص الأفراد. وتعتمد حجته على المنطق التالي: إدارة الأفراد للاقتصاد ستحقق أفضل النتائج، وأي تدخل من الدولة يمكن أن يلحق الضرر بالذاتية الفردية، وهي عامل مهم للتنمية الاقتصادية.
لكن في النصف الأول من القرن التاسع عشر، أصبحت سلبيات سياسة عدم تدخل الدولة في الاقتصاد بارزة إلى درجة أن المدافعين عن الحرية الاقتصادية بدأوا يشكُّون في فعاليتها لضمان المزيد من فرص العمل والحد من عدم المساواة الاقتصادية.
وبينما تدعو الليبرالية إلى عدم التدخَّل الحكومي، وتعتقد أن اقتصاد السوق وتقويته يمكن أن يوفر أقوى إكسير لاستعادة شباب الاقتصاد، يجادل كثيرون بأن تدخل الدولة في الوقت المناسب هو وحده القادر على إنقاذ الاقتصاد من كارثةٍ وشيكة.
الحلقة المفرغة: الدولة الحديثة في «شبكة العنكبوت»
على كثرة عدد الخيارات الاجتماعية التي قد تتبناها الدولة (الاشتراكية، الرأسمالية، التخطيط، عدم التدخل)، لا يوجد خيار فوق مستوى الجدل. ولأن كل الخيارات الاجتماعية تتضمن دورًا معينًا للدولة؛ ستعمل القوى المعارِضة على إفشاله. وأيَّا كان الخيار الاجتماعي الذي تتبناه الدولة، فإنه سيثير جدلًا، وبالتالي يخلق مشكلات.
ورغم أن أي نظام أو اختيار اجتماعي قد يحقق نتائج جيدة إذا نُفِّذ بجدية وطُبِّق بحسم؛ فإن الدولة الحديثة لا يُسمَح لها دائمًا بالعمل بحرية؛ لأن الجدل دائمًا ما يحيط بها، ويجعل عملها وقراراتها معقدة. ونظرةٌ إلى لبنان وإثيوبيا؛ تأتيك بالخبر اليقين.
لُبَّ القضية هنا لا يتعلق بالمعارضة أو الانتقاد، بل بعدم تسامح البشر مع وجهات النظر المعاكسة، وعدم تمتعهم بالصبر على الانتقال من المناخ المسموم إلى الوضع السياسي الصحي.
ومن أجل تلبية شروط الدولة الديمقراطية، تجد السلطة نفسها، حتى بعد بذل جهود مضنية، في حلقة مفرغة، أو ما يمكن تسميته «شبكة العنكبوت». وهي الحالة المزمنة في لبنان وإثيوبيا، حيث يشكل اختيار الأيديولوجية أو النمط الاجتماعي أكبر مشكلة، وقد يؤدي في كثير من الأحيان إلى عدم الاستقرار السياسي.
ورغم أن الحقوق والحرية والمساواة هي المبادئ الديمقراطية الأساسية، ولا يوجد اختلاف حول أهميتها، إلا أن المشكلة تنشأ حين ننتقل من عالم التنظير إلى واقع الممارسة. ذلك أن جميع المبادئ الديمقراطية الأساسية الثلاثة هي سياسية بطبيعتها، لكن عندما يفكر المرء في تطبيقاتها، يجد نفسه في مواجهة لا مفر منها مع القضايا الاقتصادية.
على سبيل المثال، إذا كانت هناك تفاوتات اقتصادية هائلة بين مختلف أقسام الهيكل السياسي، فإن القسم المهيمن اقتصاديًا سيحاول دائمًا التحكم في الأجزاء الأضعف، وهو ما سيؤدي في النهاية إلى قمع الحقوق والحرية والمساواة. هذا ما أشار إليه الاقتصادي الألماني كارل ماركس، وتطرق إليه لاحقًا الاقتصادي الإنجليزي هارولد لاسكي، وآخرين.
الحروب السيبرانية… كيف تخسر الدول مليارات دون إطلاق رصاصة واحدة؟