بزيارته للمغرب في الثامن من يونيو (حزيران) الماضي، كسر إيمانويل ماكرون الرئيس الفرنسي الجديد تقليدًا فرنسًيا بزيارة الجزائر كأول بلد مغاربي، وقد حافظ على هذا التقليد الرؤساء السابقون: فرانسوا هولاند ونيكولا ساركوزي وجاك شيراك. ماكرون قام بزيارة «سريعة وشخصية» لملك المغرب، الغرض منها مجرد التعارف حسب مصادر في الرئاسة الفرنسية، حيث اصطحب ماكرون زوجته فقط، دون أي مرافقين رسميين من وزراء أو رجال أعمال كما تجري العادة في الزيارات الرسمية.

زيارة المغرب قبل الجزائر

الملك المغربي محمد السادس رفقة ولي عهده،  والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. مصدر الصورة AFP.

وجاءت زيارة ماكرون إلى المغرب الأولى مغاربيًا والثانية أفريقيًا بعد أن زار القاعدة العسكرية الفرنسية في شمال مالي تأكيدًا منه على التواجد العسكري الفرنسي في منطقة الساحل الأفريقي التي تشهد اضطرابات أمنية، وحرصه على المصالح الفرنسية الاقتصادية في هذه المنطقة التي شهدت تدخّلًا عسكريًا فرنسيًا عنيفًا منذ 2013.

اقرأ أيضًا: ما الذي حدث في العاصمة المالية باماكو؟

وتشهد العلاقات بين الجزائر والمغرب اضطرابًا ملحوظًا وتنافسية شديدة في القارة الأفريقية، كما تشهد اختلافات عميقة في عدّة ملفات أبرزها قضية الصحراء الغربية التي تطالب حركة البوليساريو باستقلالها عن المغرب منذ سنة 1976 بدعم جزائري. كما أن الحدود البرية بين البلدين تبقى مقطوعة منذ سنة 1994 بعد حادثة تفجير فندق في مراكش، حيث اتهمت السلطات المغربية المخابرات الجزائرية بالضلوع فيه وأقرت فيزا دخول الجزائريين، لتردّ الجزائر بإغلاق الحدود البرية. هذا الاضطراب في العلاقات جعل كلا البلدين يحاول كسب القوى العظمى – وفرنسا بالخصوص – في صفه من أجل تقوية موقفه في مواجهة الطرف الآخر.

اقرأ أيضًا: إنفوجرافيك: كل ما يجب أن تعرفه عن الصراع المغربي الجزائري؛ مسبباته وسيناريوهاته المستقبلية

فلماذا كسر ماكرون هذا التقليد الذي حافظ عليه ثلاثة رؤساء سابقين وتجاوز الجزائر ليحطّ عند الجارة المغرب كأول زيارة مغاربية له؟

زيارة انتخابية وعودة الجدل بشأن الفترة الاستعمارية

يجيب ماكرون بأنه زار الجزائر وتونس من قبل خلال حملته الانتخابية، وبالتالي فإن الوجهة الطبيعية التالية هي المغرب. وقد زار ماكرون الجزائر في خضم الانتخابات الرئاسية مرشحًا، حيث حملت زيارته الكثير من الجدل بعد تصريحاته غير المسبوقة عن الفترة الاستعمارية الفرنسية في الجزائر، حيث وصف ما حدث للجزائريين خلال تلك الفترة التي امتدت 132 سنة (1830-1962) بـ«جريمة ضد الإنسانية».

وفتحت هذه التصريحات على ماكرون أبواب الجحيم حيث اتهمه جزء من الصحافة الفرنسية بالإضافة إلى المترشحين المنافسين وقدامى المحاربين بأنه «يسيء إلى تاريخ فرنسا المجيد» ، مما جعله يتراجع قليلًا عن تلك التصريحات.

تويتة ماكرون

ترجمة:  احتلال الجزائر: كفانا انقسامًا حول هذا الموضوع. أنا ضد عقدة الذنب وضد تهييج المشاعر معًا. أنا أول مسؤول سياسي فرنسي يتحدث في الجزائر الأقدام السوداء والحركى (الجزائريين المتعاونين مع فرنسا).

ورأى مراقبون أن زيارة ماكرون للجزائر خلال حملته الانتخابية وتصريحاته الأولى من نوعها المنتقدة للفترة الاستعمارية جاءت لكسب أصوات الجالية الجزائرية الكبيرة التي تقدّر بحوالي 5,5 ملايين مواطن فرنسي من أصل جزائري.

وقد جرى تقليد فرنسي بأن يزور أوفر المترشحين الرئاسيين حظًا الجزائر خلال حملتهم الانتخابية من أجل مغازلة أصوات المهاجرين الجزائريين كما فعل هولاند وساركوزي من قبل، ومن أجل تأكيد المرشح على المحافظة على العلاقات المتينة بين الجزائر والمستعمر القديم. وترفض الحكومة الفرنسية رسميًا الاعتذار عن الجرائم المرتكبة في حق الجزائريين خلال الفترة الاستعمارية، وهو ما أكده الرئيس السابق فرانسوا هولاند خلال زيارته الأولى للجزائر سنة 2012.

 

إلغاء زيارة ميركل ما زالت في الأذهان

في فبراير 2017 طلبت الرئاسة الجزائرية رسميًا من الحكومة الألمانية تأجيل الزيارة المنتظرة من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى الجزائر بسبب «التهاب حاد للشعب الهوائية» تعرّض له الرئيس بوتفليقة حسب الرئاسة الجزائرية. ولعل هذه الحادثة قد سلّطت الضوء أكثر من أي وقت مضى على التدهور الشديد لصحّة الرئيس البالغ من العمر 80 سنة. ويرى مراقبون أن مرض الرئيس بوتفليقة وبالتالي التراجع الملحوظ في تأثيره داخل دواليب السلطة كان من بين الأسباب التي جعلت ماكرون يفضّل الجارة المغرب بدل الجزائر.

وتساءلت جريدة المساء الجزائرية الناطقة بالفرنسية: «من الذي سيستقبل ماكرون عند زيارته إلى الجزائر؟ وكيف ستجري الحوارات بين الرئيس الفرنسي والجزائري الذي لم يخاطب شعبه منذ 2012؟» ويعاني بوتفليقة من تدهور في صحته منذ إصابته بجلطة دماغية في 2013 أرغمته على السفر إلى فرنسا للعلاج والمكوث في المستشفى لمدة تزيد عن 80 يومًا، كما أثرت على أداء وظائفه الحيوية كالمشي والتخاطب بشكل جلي.

وقد أجرى الرئيس الفرنسي ماكرون عدّة اتصالات هاتفية مع الرئيس بوتفليقة أكد فيها على متانة العلاقات بين البلدين كما وعده بزيارة الجزائر «في أقرب الفرص» ويستغل النظام الجزائري مثل هذه الزيارات الرسمية للوفود الأجنبية من أجل إبراز الرئيس بوتفليقة في التلفاز وإظهاره كمتحكّم في الأوضاع وأنه لا يزال يسيطر على مقاليد الحكم رغم مرضه.

وتساءلت جريدة الشروق الجزائرية إن كان تأجيل الزيارة في كل مرة سببه الطرف الجزائري وليس الفرنسي، كون هنالك خلافات بين الجزائر وفرنسا في الملف الليبي بالخصوص، حيث ترفض الجزائر استفراد فرنسا بهذا الملف ودعمها للجنرال خليفة حفتر بعد اللقاء الذي جرى في قصر الإيليزي بين ماكرون والثنائي حفتر والسرّاج.

 

جمهورية الشيوخ Vs مملكة الشباب: المغرب كوجهة جذابة أكثر

وترى صحف فرنسية أن سبب اختيار ماكرون للمغرب كوجهة أولى هو أن الجزائر فقدت بريقها السابق بالنسبة للفرنسيين بالمقارنة مع المغرب، فرغم أن الحاجة إلى التنسيق مع الجزائر في القضايا الإقليمية – خصوصًا في الملف الليبي والمالي – تبقى ضرورية بالنسبة للفرنسيين إلا أن القيادة المغربية تطرح نفسها بديلًا أكثر عصرية ومتجاوزًا للأعباء التاريخية الثقيلة التي تحكم العلاقات بين الجزائر وفرنسا.

فالملك المغربي حسب صحيفة slate.fr «يملك نقاطًا مشتركة مع ماكرون أكثر من نظيره الجزائري» فصغر سنه ونشاطه الملحوظ في القارة الأفريقية يجعله أقرب إلى ماكرون من القيادة الجزائرية التي تراجع بريقها بعد مرض الرئيس. كما أن سهولة الاستثمار المعتبرة المتوفرة في المغرب المصنف 68 عالميًا في ترتيب البنك الدولي لمناخ الأعمال مقابل الفرص الاستثمارية المغلقة نسبيًا في الجزائر المصنفة 156 في نفس المؤشر. فمع انخفاض حجم الإنفاق الحكومي على المشاريع العمومية بسبب انخفاض أسعار البترول لم تعد السوق الجزائرية جذّابة للاستثمارات الفرنسية كما كانت سابقًا.

بالإضافة إلى ذلك فإن اقتراب المغرب من الانضمام للمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا «إكواس» التي تتواجد فرنسا فيها بقوة يجعل الشراكة الاقتصادية بين البلدين أكثر تنوعًا حيث تطمح فرنسا لأن تكون المغرب مدخلًا لاستثماراتها وتصدير سلعها لهذه المنطقة الأفريقية. ولعل أبرز مؤشر على تفوق المغرب في استقطاب الاستثمار الفرنسي هو احتفال الشركة الفرنسية «رونو» للسيارات بإنتاج السيارة رقم مليون بمصنع طنجة – المغرب الذي ينتج سنويًا 200 ألف سيارة، بينما نفس فرع الشركة في وهران – الجزائر لن يتجاوز إنتاجه 60 ألف سيارة في 2017.

 

وتستغل فرنسا مثل هذه الزيارات من أجل الحصول على أكبر قدر من المكاسب الاقتصادية، فبعد زيارة الرئيس السابق هولاند للجزائر في 2012 تم توقيع ما سمي «إعلان الجزائر حول الصداقة والتعاون» يعطي بذلك امتيازات كبيرة للاستثمار الفرنسي في الجزائر، فقد تلا هذا الإعلان توقيع 20 اتفاقية اقتصادية في 2014 ثم تسع اتفاقيات أخرى في 2015، وبعد زيارة رئيس الوزراء الفرنسي للجزائر في 2016 تم التوقيع على 26 اتفاقية أخرى بحضور 60 مؤسسة اقتصادية فرنسية.

ورغم هذه الامتيازات يبقى الاستثمار الفرنسي في الجزائر أضعف من المغرب بكثير، فقد بلغ حجم الاستثمار في سنة 2014 نصف مليون يورو فقط، مما جعله مجرد فكّة مقارنة مع نظيرتها في المغرب التي تفوقها بأربع مرات في سنوات 2013. و في حين تنشط أكثر من 6800 شركة فرنسية في الجارة المغرب، لا يزيد عدد الشركات الفرنسية في الجزائر عن 500، ولعل قاعدة 51/49 التي تنص على امتلاك الشريك الجزائري لـ51% من أسهم أي شركة أجنبية في الجزائر هو العائق الأكبر من توسيع هذه الاستثمارات حسب بعض الخبراء.

أوضاع داخلية حرجة

بالتأكيد ماكرون سيزور الجزائر في الأشهر القليلة القادمة (أكتوبر كما تشير بعض التقارير)، لكن زيارته إلى المغرب قبل الجزائر لها رمزية أكثر من مجرد الزيارة ذاتها، فالدولة الأكبر مساحة في أفريقيا باتت تتخبط في عدة مشاكل داخلية أهمها الأزمة الاقتصادية جراء التراجع الحاد في أسعار البترول بالإضافة إلى القلاقل السياسية وعدم الاستقرار في سدة الحكم خصوصًا إثر إقالة الوزير الأول عبد المجيد تبون بعد 83 يومًا فقط من تنصيبه على رأس الوزارة، كما أن ملف مرض رئيس الجمهورية الذي يشلّ البلاد وترتيبات خلافته في 2019 يبقى موضوعًا حساسًا.

اقرأ أيضًا: سلطة المال.. كيف انتصر رجال الأعمال على «تبون» في الجزائر؟

في المقابل يعيش المغرب استقرارًا سياسيًا نسبيًا رغم الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في الريف المغربي، وبالتالي يسوّق لنفسه كوجهة جذّابة للشراكة مع القوى الكبرى سياسيًا واقتصاديًا، خصوصًا استراتيجيته في التوسع في أفريقيا وعودته للاتحاد الأفريقي بعد غياب لأكثر من 32 سنة.

اقرأ أيضًا: رغم تدخل الملك.. لماذا لم تتوقف احتجاجات المغرب؟

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد