أوشكت الاحتجاجات العراقية الأخيرة التي اندلعت من مدينة البصرة النفطية – ذات أغلبية شيعية – أن تدخل أسبوعها الثالث؛ لتحصد معها وأمامها في أيام قليلة أغلب محافظات وسط وجنوب العراق: ذي قار، وبابل، وكربلاء، وميسان، والديوانية، والنجف، والمثني)، ورفع الغاضبون – سُنة وشيعة – لافتات واحدة تطالب بتحسين ظروف المعيشة، وحل أزمتي الكهرباء والبطالة، إضافة إلى نقص المياه، لكنّ الترقب الحكومي دفعهم إلى القيام باقتحام مطار النجف، ومحاولة اقتحام آبار النفط في البصرة، ولم يردعهم سقوط عشرات القتلى والمصابين، ومن جهة أخرى فشلت الحكومة حتى الآن في احتواء الغضب الشعبي المتصاعد في ظل تأييد المرجع الأعلى للشيعة في العراق – علي السيستاني – لها.

وقصة ثورة الجياع – كما أصبح اسمها لاحقًا – تبدأ من إيران؛ حيث أوقفت طهران خطوط إمداد الكهرباء التي يستوردها العراق؛ بسبب تراكم الديون التي تقدر بنحو مليار دولار؛ مما أدى إلى نشوب الاحتجاجات التي لم تُلفت انتباه القادة العرب، عدا أمير الكويت الذي هاتف رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، ثم قام بتكثيف تواجد جيشه على الحدود.

وحين أخذ العراق زمام المبادرة لطلب الدعم علنيًا، قام بإرسال وفد عراقي رفيع المستوى إلى السعودية لتوقيع مذكرة تعاون في مجال الطاقة، وفي ضربة قاصمة جاءه الرد السعودي بإلغاء الزيارة؛ وهكذا رفضت الدولتان (السعودية وإيران) – اللتان طالما تصارعتا على بلاد الرافدين – تقديم المساعدة.

هذه السطور توضح لك لماذا قد ترغب السعودية وإيران في إسقاط النظام العراقي في ظل تفاقم أزمته، وما هي مكاسب كل طرفٍ من الخسائر.

إيران والانتخابات العراقية.. «قِبلة الشيعة تبتعد عن الخميني»

المتظاهرون الشيعة أحرقوا صورة الخميني في مدينة البصرة

حملت نتائج الانتخابات العراقية الأخيرة التي عقدت في مايو (آيار) الماضي هزيمة كبرى لحلفاء إيران في الداخل العراقي؛ فتحالف «سائرون» بزعامة رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر – حليف السعودية وعدو إيران – حلّ في المركز الأول 52 مقعدًا، بينما جاء تحالف «الفتح»، الذي يتزعمه هادي العامري – رجل إيران في العراق – ويضم فصائل الحشد الشعبي في المركز الثاني، 47 مقعدًا، أما ائتلاف «النصر»، برئاسة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، فجاء في المركز الثالث ـ42 مقعدًا.

Embed from Getty Images

بينما حلّ ائتلاف «دولة القانون» بزعامة نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق  في المركز الرابع. ولا يبدو أنّ حلفاء إيران أحرزوا تقدمًا في الانتخابات، رغم حصولهما على المركزين الثاني والرابع؛ لأنهما لن يستطيعا بأي شكل من الأشكال تشكيل حكومة أغلبية منفردة، إلا بالحصول على 165 مقعدًا كما ينص الدستور، لذا فعليهما تجاوز الإطار الطائفي بالتحالف مع الكتل الأخرى الفائزة، وهو الخيار غير الصعب على التيار الصدري.

شكّل فوز مقتدى الصدر – في الانتخابات التي يشوبها اتهامات بالتزوير – أزمة كبرى في إيران؛ فقائد فيلق القدس – تابع للحرس الثوري الإيراني – قاسم سليماني توجه سريعًا صوب بغداد للقاء حلفائه: هادي، والعامري؛ في محاولة لرسم المشهد السياسي الجديد الذي يأتي في صالح حلفاء واشنطن.

وفي محاولة يائسة بعث سليماني برسالة إلى مقتدى الصدر سبقت زيارة نجل المرشد الأعلى إلى بغداد؛ من أجل إقناعه -الصدر – بتحالف استراتيجي يؤسس لتشكيل حكومة على أساس طائفي؛ لأنه هو الحل الوحيد لبقاء إيران في المشهد العراقي، وبعد عدة أيام فوجئت كل التيارات العراقية بتشكيل الصدر تحالفًا مع «الفتح»، لكن هذا التحالف لم يصمد عدة أيام وانهار في مفاجأة أخرى، وهو ما بدا بأنه كان خدعة من رجل الدين الشيعي لمراوغة خصومه والضغط على حلفائه.

بعودة التيار الصدري للتحالف مع كتلة رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، فإنّ البوصلة السياسية الجديدة ستبتعد كُليًا عن طهران؛ فحيدر العبادي – رغم تفاهماته مع إيران – إلا أنّ علاقاته وطيدة مع واشنطن، كما أنّ محاولات التقارب مع السعودية في الخارج والتودد للكتل السُنيّة في الداخل باتت علنية؛ مما جعل بينه وبين الرئيس الإيراني حسن روحاني جفاءً غير خفي نظرًا لأنه في نظرهم حليف غير وفي، أمّا مقتدى الصدر فيسوّق نفسه بصورة أكثر ثباتًا على الأرض؛ باعتباره رجل إعادة العراق إلى قوميتها العربية القديمة بعيدًا عن التدخلات الإيرانية؛ لذا يحظى بشعبية جارفة في الداخل، حتى من السنة، وقبول من الخارج.

 وسبق للصدر أن توجه لزيارة السعودية العام الماضي للقاء ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، وفي أثناء الزيارة وصف رجل الدين الشيعي المملكة بأنها «بمثابة الأب». المثير أنه تجاهل تدخل الرياض في الداخل العراقي، ووجه رسالة لطهران مفادها: «إيران دولة جارة تخاف على مصالحها، لكن نأمل منها عدم التدخل في الشأن العراقي».

لذا فمخاوف إيران من قيام تحالف الصدر – العبادي بإقصاء حلفائهم من الحكومة العراقية الجديدة باتت لا تقبل الشك، والرسائل نفسها رددتها طهران على لسان مستشار المرشد الأعلى الإيراني، علي أكبر ولايتي، الذي هدد قبيل إجراء الانتخابات بأن إيران لن تسمح بقفز الليبراليين والشيوعيين على السلطة في العراق، في إشارة واضحة إلى التيار الصدري الذي يتخذ سياسات مُعارضة كُليًا لدور طهران في المنطقة، وأبرزها مطالبته بحلّ قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، ومصادرة سلاحها لصالح الجيش العراقي، كما أنه انتقد مشاركة تلك الميليشيات في القتال خارج حدود الدولة لدعم بقاء الرئيس السوري، بشار الأسد، في السُلطة. وفي خطوة جريئة رفض الصدر مشاركة قواته الممولة بدعم إيراني في معارك سوريا؛ لتقرر إيران وقف تمويل رواتب أعضاء حركته.

جدير بالذكر أنّه إبان الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، برز الصدر كقوة ثقيلة على الأرض بدعم مالي وعسكري آنذاك من إيران، وفي عام 2006 حين صدرت مذكرة اعتقال بحقه لاتهامه بالتسبب في مذابح السنة العراقيين اختار التوجه لطهران، وكان حينها صديقًا لخصمه الحالي نوري المالكي.

صداقة مزيفة.. أجندات السعودية تختلف مع توجهات النظام القائم

الخُذلان الأخير الذي تعرضت له حكومة العبادي من السعودية برفض مدها بالطاقة لحل أزمة الكهرباء ليس الأول؛ فسبق أن رفضت المملكة أيضًا قبل عدة أشهر طلب وزير النفط العراقي إعادة فتح خط أنابيب قديم أنشأه الرئيس العراقي صدام حسين لتصدير النفط عبر السعودية، لكنه لم يزل متوقفًا منذ الغزو العراقي على الكويت 1990.

وتضغط السعودية للسيطرة على الأنبوب كتعويض مقابل الديون المستحقة لها على العراق، لكنّ وزير النفط العراقي يُردد بأنّه قد أنشئ بأموال عراقية بدءًا من منابع النفط العراقية، وصولًا إلى موانئ ينبع السعودية على البحر الأحمر، وحتى الآن لم يزل منصب السفير السعودي شاغرًا في العراق، رغم كل ما يروج له من متانة العلاقات.

(صورة تجمع مقتدى الصدر بحسن نصر الله)

تقارب بغداد الأخير مع الرياض يأتي في الأساس بسبب رغبة الحكومة العراقية في الحصول على الدعم في ملفات النفط والطاقة والاستثمار لإعادة إعمار العراق بعد الحرب، وسبق لرئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي أنّ صرح – بعد توليه منصبه الحالي عام 2015 – أنه مُستعدٌ لتجاوز كل الخلافات مع السعودية بعد 25 عامًا من القطيعة؛ لتقرر المملكة إعادة فتح سفارتها المغلقة منذ حرب الخليج الثانية، واختيار ثامر السبهان ليكون سفيرًا لها.

ولكن بمجرد وصول السبهان إلى أرض العراق كاد يُشعل حربًا طائفية فيها حين هاجم الحشد الشعبي (أغلبية شيعية مدعومة من إيران)، ووصفه بأنه لا يتمتَّع بالقبول في المجتمع العراقي، كما أنّه زار المجمّع الفقهي الذي يعدّ دارًا للفتوى وأكبر مرجعية دينية لسنة العراق، وذلك عقب الانتهاكات التي تعرضوا لها من الحشد الشعبي؛ ليقوم السفير السعودي بتوجيه رسالة مفادها: «لن نتخلى عنكم»، وهو ما فُسِّر بأنّ السعودية من الممكن أن تدعم حربًا جديدة ضد إيران في العراق.

لهذا لم تكن عودة العلاقات بهذه الطريقة لتُرضي الجانب العراقي، فخرج رئيس الوزراء العراقي بتصريح يقول فيه: «إذا كان الإخوة السعوديون يعتقدون أن العراق بوابة لإيران فهم مخطئون، العراق ليس بوابة لإيران، ونحن لا نريد أن ندخل في صراعات إقليمية بين السعودية وإيران».

اللافت أنّ أجندة تقارب السعودية مع النظام  العراقي القائم تقوم في الأساس على ضمان إنشاء حكومة عراقية بعد الانتخابات بنظام سياسي غير طائفي، وعدم تهميش السنة، خاصة بعد فشل الرهان عليهم في العملية السياسية، والأهم أن تخرج بغداد من التحالف الإيراني.

رغم الصداقة الظاهرة التي جمعت المملكة بالصدر، سرعان ما طفت بعض الخلافات بين الجانبين للعلن خلال القمة العربية الأخيرة التي استضافتها السعودية في أبريل (نيسان) الماضي، فمقتدى الصدر لم يتردد في الهجوم على البيان الختامي للقمة الذي أدان أعمال إيران في المنطقة العربية، كما اعتبر أنه يسهم في إشعال الحرب الطائفية في المنطقة.

وقد صارت الانتقادات أكثر جرأة، ووضحوًا حين انتقد الصدر العملية العسكرية التي تقوم بها السعودية والإمارات في اليمن، ووصفها بأنها «عملية ظالمة»، وكررها مرة أخرى حين طالب بإنهاء الحصار المفروض على اليمنيين، وفي البحرين شنّ الصدر هجومًا على المملكة الصغيرة المدعومة من الرياض، فبعد عمليات اعتقال رموز شيعية وسحب الجنسية منهم أعلن الصدر صراحة: «ملف البحرين لم يعد السكوت عنه مجديًا»، وبرأى البعض، فكل آرائه المُعلنة تشير إلى أنه لن يكون يومًا صديقًا حقيقيًا للسعودية، ولا عدوًا لإيران، كما يروّج له.

دلالات كثيرة تشير إلى رفض السعودية للنظام العراقي الجديد، ليس أبرزها أنّ الصدر الذي رفض استقلال إقليم كردستان العراق لن ينسى أنّ السعودية دعمت استفتاء الاستقلال إلى جانب إسرائيل؛ كما أن العلاقة بين التيار الصدري في العراق وحسن نصر الله في لبنان تثير مخاوف السعودية، خاصة أنّ قوات نصر الله – باعترافه – كانت تقاتل في العراق جنبًا إلى جنب مع التيار الصدري ضد «تنظيم الدولة».

وحين سُئل الصدر عن مصير علاقاته مع حزب الله في ظل صداقته الجديدة مع الرياض أجاب بأنّ علاقاته بحزب الله «ستظل فوق الرأس»، بحسب وصفه، وهو ما لن يُرضي السعودية التي توشك صداقتها الزائفة أن تتحطم مع التيار الصدري بعد تشكيل الحكومة الجديدة، كما يبدو للبعض.

مآلات ثورة الجياع.. كيف سينجو العراق من أزمته؟

بعد تخلّي إيران والسعودية عن النظام السياسي العراقي في أزمته، لم يعد أمام الحكومة العراقية إلا الحلول الذاتية لاحتواء غضب المتظاهرين ومنع انتقال التظاهرات إلى محافظات أخرى؛ وكان أول قرار اتخذه حيدر العبادي هو اقتطاع 400 ميجا وات من أصل 750 من حصة الموصل من الكهرباء وضخها في مدن الجنوب لحل مشكلة الكهرباء، كما تعهد رئيس الحكومة بتخصيص 3.5 تريليون دينار (حوالى 3 مليارات دولار) إلى محافظة البصرة النفطية لبدء مشروعات خدمية واستثمارية لحل أزمة البطالة، إلا أنّ تصريحه الأخير مازال في طور الوعود.

Embed from Getty Images

وحتى لا يقع الزعيم الشيعي – الصدر – في فخ الوعود الحكومية، أعلن منذ اليوم الأول انحيازه إلى صفوف المتظاهرين، كما أنه دعا إلى تعليق مشاورات الكتل السياسية الفائزة في الانتخابات إلى التوقف عن جهود تشكيل الحكومة العراقية الجديدة إلى حين الاستجابة لكل مطالب المحتجين بتحسين الخدمات في الجنوب، رغم أنّ العقوبات الإيرانية والسياسية كانت تسهدفه بالأساس، لكنه بقراره هذا لم يعد يتحمل تبعاتها، ولا أعباءها.

وبعد أن رفع الجميع يده على العراق، تواصل الحكومة العراقية جهودها للحصول على قرض مالي من اليابان بقيمة 192 مليون دولار؛ لتأهيل محطة كهربائية في الجنوب؛ للحد من أزمة نقص الطاقة، وتجدر الإشارة إلى أن معدل توليد العراق من الكهرباء يصل إلى 10 آلاف و900 ميجاواط، بينما يصل العجز إلى 10 آلاف ميجاواط من الطاقة، وهو الرقم الذي كانت تستورده من إيران، وتعد أزمة الكهرباء هي أبرز الأزمات المتفاقمة والممتدة لسنوات والتي كلفت الحكومة 41 مليار دولار في إنشاء مشروعات متوقفة.

البعض يعتقد أنّ الحل السريع أمام الحكومة يقتضي توقيع اتفاقيات في مجال الطاقة مع دول عربية أو أجنبية، لكنّ الأزمة تكمن في أنّ الطرف الآخر قد لا يقبل مدّ العراق بالكهرباء؛ لأنّ العراق لن يقدر على الدفع في ظل أزمته المالية، كما أنّ التظاهرات الممتدة في ثماني محافظات عراقية قد لا تُسعف الحكومة لوضع خطط طويلة المدى من أجل الوصول لاكتفاء ذاتي من الطاقة، ولازالت التظاهرات مستمرة.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد