في التسعينات من القرن الماضي، انتشرت العديد من الدراسات العلمية التي جعلت الناس متحمسين لتناول عنصر«بيتا كاروتين» المتواجد في بعض الخضروات والفواكه المتاحة طيلة الوقت مثل: الجزر، والقرع، والمشمش، والفلفل الأخضر. زعمت الكثير من الدراسات المدعومة بتجارب على الحيوانات أن هذا العنصر يقي من الإصابة بالسرطان؛ حتى إن الكثير من الشركات صنعت كبسولات بيتا كاروتين.
ظهرت بعد ذلك ثلاث دراسات متزامنة، مدعومة بتجارب سريرية، استخدم فيها تأثير «بلاسيبو» بتزويد مجموعة عشوائية من الأفراد بعنصر بيتا كاروتين، والأخرى بالبلاسيبو، لتثبت التجارب الثلاثة كذب التأثير المتداول بأن هذا العنصر يقاوم السرطان؛ بل إنه قد يتسبب في زيادة نسبة تعرّض الأفراد للسرطان.
حينها ظهرت برامج التلفاز التي تقارن الدراسات التي تدعم كل فرضية، أحدها قدم على منضدة كومة من الأوراق تمثل الدراسات التي تؤكد فائدة عنصر بيتا كاروتين، في مقابل ثلاث ورقات فقط تدعم الفرضية المضادة، وكان السؤال: أي الدراسات سوف تصدق؟ الحقيقة أن هذا التعارض في نتائج الدراسات العلمية أصبح أكثر شيوعًا، ربما تكون تعرضت له في أشياء مثل التدخين، والقهوة، وغيرهما.
(1) معضلة تعميم النتائج
في بعض الأحيان يكون التعارض الظاهر بين دراستين أو أكثر متعلق بعملية قراءة النتائج الخاصة بالتجربة، والتي تميل عادة إلى التعميم غير الصحيح من شرائح صغيرة إلى أطياف واسعة. هذا الميل إلى التعميم يرجع إلى رغبة الأفراد المتعاطين مع التجارب في استخلاص نتيجة مفيدة ومثيرة للاهتمام، الناس عمومًا يهتمون بالنتائج البسيطة مثل: تناول الفواكه يقي من السرطان، أو التدخين ضار ويسبب سرطان الرئة؛ بينما نتيجة محدودة ومتخصصة مثل تأكيد خطورة تناول أكثر من كوب واحد من عصير البرتقال يوميًّا، وأن ذلك قد يؤدي إلى زيادة نسبة خطر الإصابة بمرض السكري، لن تحظى بالكثير من الاهتمام.
لفهم هذه المعضلة نضرب مثلًا بمحاولة اختبار فرضية أن النساء في العموم متوسط أطوالهن أقل من الرجال. في هذه الحالة، يجب اختيار عينة عشوائية، تكون ممثلة -بشكل مثالي- مجموع الأفراد الكلي لاختبار الفرضية، مثل قياس طول 400 رجل و400 امرأة بشكل عشوائي للخروج بفرضية صحيحة.
Embed from Getty Images
من حيث التوزيع الجغرافي يجب أن تمثل العينة كل الأماكن التي يتواجد بها البشر في الكوكب، عمليًّا سيكون ذلك مستحيلًا لأسباب مادية وتحضيرية. في المقابل إذا تم اختيار مجموعة الرجال والنساء من مدينة معينة، فإن احتمالية اختيار رجال بمتوسط طول أعلى من المتوسط الطبيعي لا يمكن إهمالها. كذلك فإن النتيجة التي سنخرج بها في هذه الحالة ستكون أن النساء في حدود العدد المذكور أقل طولًا من الرجال، وفي حدود هذه المدينة، لا أحد سيعتبر هذه النتيجة مثيرة لأننا نريد العلاقة بين متوسط طول الرجال والنساء في المطلق. هذه المفارقة تتسبب في اختلاف أو تعارض دراسات كثيرة في مجالات مختلفة.
(2) النتائج المتعارضة تبدأ بتصميم سيئ للتجربة
نُشرت دراسة في عام 2012 أجراها فريق من الباحثين الأستراليين حول اختلاف أنواع البكتيريا المعوية بين الأطفال المصابين بالتوحد، والأطفال الأصحاء. وجدت الدراسة أنه لا يوجد فرق في نوعية الميكروبات والبكتيريا المعوية بين الأطفال المصابين بالتوحد وغيرهم من الأطفال. وتتعارض هذه الدراسة بشكل واضح مع دراسة أقدم توصلت إلى نتيجة مفادها أن الأطفال المصابين بالتوحد لديهم نوعية من البكتيريا المعوية، تختلف عن تلك التي يمتلكها الأطفال الأصحاء، وأثبتت التجربة وجود نوعين من البكتيريا هما «كلوستريديا»، و«سوتيريلا» في أمعاء الأطفال المصابين بالتوحد.
في محاولتها تفسير هذا التعارض الواضح بين الدراستين، تقول «إميلي أنثيث»، الصحافية المتخصصة في العلوم، إن الخدعة في فهم هذا التعارض هي أن الباحثين أثناء تصميمهم هذه التجارب واجهوا عددًا لا يحصى من القرارات الصغيرة إزاء جمع البيانات وتحليلها، وكل من هذه القرارات الصغيرة سيكون له تأثير في النتائج النهائية. على سبيل المثال، كان عليهم اختيار مجموعة الأطفال التي سيتم اختبارهم ومقارنة النتائج، واختار بعض العلماء مقارنة أطفال مصابين بالتوحد بأطفال من أقربائهم، بينما اختار علماء آخرون أطفال لا تجمعهم أي صلة بالأطفال المصابين بالتوحد.
Embed from Getty Images
لشرح النتائج المترتبة على اختلاف الباحثين في هذا القرار البسيط، تقول «كاثرين لوزوبون»، الباحثة الزميلة في معمل روب نايت بجامعة كولورادو: «التوحد له أسباب معقدة، فهناك أسباب جينية، وكذلك أسباب بيئية». في هذه الحالة، يتشارك الأطفال المصابون بالتوحد، مع أقربائهم، في القواعد الجينية، وكذلك العوامل البيئية؛ لذلك يمكن أن تكون هذه العوامل مؤثرة في جعل نتائج تحليل البكتيريا الخاصة بهم متشابهة.
عامل آخر كان على الباحثين اتخاذ قرار بشأنه، وهو المضادات الحيوية، والتي يمكن أن تؤثر بشكل عميق ورئيسي في إمكانية تواجد البكتيريا في أجساد الأطفال، وكذلك يمكن أن تؤثر في أنواع هذه البكتيريا المتواجدة، فهل نستبعد الأطفال الذين تناولوا مضادات حيوية قبل التجربة أم لا، وهل تحديد مفهوم كلمة «مؤخرًا» يكون آخر أسبوع، أم آخر شهر، أم أكثر من ذلك؟ كان على كل مجموعة من الباحثين أن تحدد موقفها من إجابة كل سؤال من الأسئلة السابقة، وكلها تقع تحت بند متغير واحد.
كانت هذه مناقشة حول الإجابات المحتملة عن سؤالين فقط من أسئلة غير محدودة تخص عملية جمع الشرائح التي تُجرى عليها التجربة، نفس الأمر يمكن أن يتعرض له الباحث في عملية تحليل البيانات والنتائج، وهو ما يمكن أن يجعل النتائج تختلف بشكل عميق يصل إلى التعارض أحيانًا. هكذا، تعتبر عملية تصميم التجارب العلمية أولى الخطوات وأهمها للخروج بنتائج علمية صحيحة.
(3) «ضوء الشارع» يُبقي العلماء في الظلام
حالة من التفاؤل سادت ثمانينات القرن الماضي، عندما انتشرت أدوية تعالج مشكلة عدم الانتظام في ضربات القلب. لاحظ العلماء أن ضحايا الأزمات القلبية ذوي ضربات القلب المنتظمة، لديهم فرص أكبر في النجاة؛ من هنا كان ظهور علاج لإعادة تنظيم ضربات القلب مرحبًا به للغاية، وسريعًا تم تعميم الدواء ليصبح أكثر شيوعًا في الولايات المتحدة. في بداية التسعينات اكتشف العلماء تأثيرًا آخر لهذا الدواء، وهو التسبب في مقتل 56 ألف حالة أزمة قلبية كل عام. اكتشف الباحثون أنهم قد صوبوا كل تركيزهم تجاه التأثير القريب للعلاج، بينما تجاهلوا التأثيرات البعيدة التي اتضح أن من بينها التسبب في الوفاة.
يرتبط تعريف هذا الخطأ المتسبب في هذه الكارثة بمزحة قديمة، حيث يجد ضابط شرطة في أثناء مناوبته الليلية رجلًا ثملًا يزحف على يديه باحثًا عن شيء ما. يسأله الضابط عن الشيء الذي فقده، فيجيبه الرجل بأنه يبحث عن محفظته، وعندما يسأله الضابط ما إذا كان متأكدًا من فقدان محفظته في هذه البقعة، يقول الرجل إنه يعتقد أنه فقدها في الجهة المقابلة من الشارع، ليسأله الضابط عن سبب بحثه هنا إذن، فيجيبه الرجل بأن الضوء أفضل هنا للبحث. هكذا يكون الكثير من العلماء مضطرين أحيانًا للبحث عن الحقيقة في المناطق المضيئة، وليس الأماكن التي من المفترض أن الحقائق موجودة فيها.
Embed from Getty Images
في الحقيقة، هم لا يمتلكون الخيار في الكثير من الأحيان؛ إذ يكون من الصعوبة بمكان، أو حتى من المستحيل بحث المتغيرات المؤثرة بحثًا حاسمًا؛ لذلك يضطرون إلى بحث المتغيرات التي يستطيعون التعاطي معها، آملين أن تكون في النهاية ذات صلة بالمتغيرات الأساسية، والتي من المفترض بحثها.
هذا الأمر يترك علماء الاقتصاد عاجزين مثلًا أمام تتبع السلوكيات الفردية لمليارات المستهلكين والمستثمرين؛ ليعتمدوا، في المقابل، على مؤشرات ومقتطفات يتم استخراجها من بيانات مجمعة مسبقًا لأغراض غير محددة. هكذا يترك تأثير «ضوء الشارع» الكثير من الدراسات التي تملأ الصحف والمجلات بالكثير من الدراسات التي تعارض دراسات أخرى، حتى يتم معايرة هذه التجارب بمعايير علمية أقوى لاحقًا للخروج بنتائج أصوب.
(4) فوضى التجارب الخاصة بالتغذية
هناك فوضى حقيقية في عالم التجارب والدراسات الخاصة بالمواد الغذائية المختلفة، فهو أحد أكثر المجالات التي يشيع فيها التعارض الواضح بين الدراسات العلمية؛ وذلك نظرًا إلى طبيعته المعقدة، والتي تجعله أكثر قابلية للنتائج الخاطئة أو المتعارضة. الفكرة الأولى التي يجب أن نستحضرها هنا، هي أن الطعام هو واحد من عوامل كثيرة تحدد المستوى العام لصحتنا، فهناك جيناتنا، والعوامل البيئية المحيطة.
يقول الدكتور «رونالد ريدلمييه»، أستاذ الطب بجامعة تورنتو: «يتدفق الطعام الذي نأكله تدفقًا مستمرًا طوال اليوم، والسنة، وطوال فترة عمر الشخص. هذا الأمر سيجعل من الصعب تحديد الأجزاء المحددة في نظامنا الغذائي، التي تعتبر مفيدة أو ضارة». هذه الحقيقة تضعف من قدرة العلماء على إجراء دراسات علمية دقيقة، ومتحكم فيها بشكل كامل. الطريقة المثلى لإجراء دراسة في هذه الحالة تكون بفصل مجموعتين، وإعطاء الأولى دواءً محددًا، والأخرى تُعطى دواءً مزيفًا (بلاسيبو)، لكي يتمكن الباحثون من الخروج بنتائج علمية سليمة عن تأثير الدواء المراد اختباره عن طريق مراقبة التغييرات التي حدثت لكلتا المجموعتين.

رسم بياني يوضح التعارض في الدراسات العلمية الخاصة بالأطعمة، على اليمين الدراسات التي تدعي التسبب في السرطان، وعلى اليسار الدراسات التي تدعي التسبب في الشفاء من السرطان. المصدر
ما يجعل الحصول على نتائج جيدة أمرًا شبه مستحيل، هو عجز الباحثين عن إقناع الأشخاص الخاضعين للتجربة بالحفاظ على نوعية طعام معينة لفترات زمنية طويلة؛ لذلك يتحولون إلى نوعية مختلفة -أقل دقة- من الدراسات التي تعتمد على الملاحظة. في نطاق هذه النوعية من التجارب يقوم الباحثون بملاحظة أنماط غذاء الأشخاص وسؤالهم عن أنظمتهم الغذائية وعاداتهم اليومية المختلفة؛ محاولين استكشاف ما إذا كان مجموعة من الأشخاص الذي يشتركون في عادات غذائية معينة أكثر عرضة، أو أقل لنوع معين من الأمراض أو العدوى.
تعتري هذه الطريقة التي يعتمدها الباحثون في مجال التغذية الكثير من نقاط الضعف، أخطرها أن الباحثين يستطيعون إثبات نتائج ذات صلة بموضوع التجربة، ولا يمكنهم إثبات سبب أو تأثير محدد اعتمادًا على مدخلات التجربة. الكثير من الأشخاص الخاضعين لهذه التجارب قد يتعرضون للنسيان فيما يتعلق بإجاباتهم عن أسئلة معينة، ستعيق هذه الأسباب الباحثين عن الخروج بنتائج أكثر دقة عن طريق إجراء الدراسات المطولة التي تستمر عدة سنوات. ورغم تفضيل الباحثين لإجراء الدراسات المطولة، حال إمكانية ذلك، إلا أنهم سيعانون مشاكل وتحديات مختلفة أيضًا مثل ازدياد احتمالية تغيير الأشخاص لعنصر معين، أو أكثر في نظامهم الغذائي قبل انتهاء التجربة.
لماذا نصدق العلم إذن؟
قد يقفز البعض بعد قراءة هذا التقرير إلى الاستنتاج القائم على تنحية العلم جانبًا والمضي قدمًا؛ إذ يعتري المنهج العلمي كل هذه الأخطاء وأكثر. الشيء المهم هنا هو الإشارة إلى خطأ هذه الفكرة، فالمنهج العلمي قادر أكثر من غيره على تصحيح مساره، وتصحيح أخطائه. لا يخفي العلماء والقائمون على المنهج العلمي -عادةً- أخطاءهم المحتومة من حيث القصور البشري، وقصور الإمكانات؛ لكنهم يستمرون في اعتماد المنهج العلمي القائم على مجموعة من المعايير الصارمة في اختبار النظريات العلمية، ومن ثم كشف الأخطاء وتصحيحها.
الجانب غير الملاحظ في المشكلات التي عرضها التقرير، هو أن دراسات علمية كانت السبب الرئيس في كشف خطأ الدراسات العلمية السابقة عليها، سواء كان ذلك لتحيزات الباحثين، وهم بشر ربما يتحيزون بدون وعي منهم، أو لخطأ في التصميم الخاص بالتجارب، أو أخطاء في استقراء النتائج.
يولي المنهج العلمي اهتمامًا فائقًا باختبار الفرضيات والنتائج التي يتم نشرها، وهناك دوريات علمية خاصة بمراجعة ومناقشة الورقات العلمية التي يتم نشرها. لا يعني ذلك إمكانية تجنُّب الأخطاء بشكل كامل، لكنه في المقابل يعكس رغبة حقيقية من القائمين على المنهج العلمي في السير على درب الحقيقة. كذلك يتميز المنهج العلمي بالانفتاح الكامل على النظر في كل الانتقادات التي يمكن أن تعارض ما استقرت عليه النظريات العلمية، وهو الأمر الذي يضمن المزيد من فرص تصحيح المسار لما يجب أن تستقر عليه البشرية.