في أكتوبر (تشرين الأول) 2021، أعلنت ثلاث وزارات جزائرية، هي التكوين المهني والشباب والرياضة، والعمل، منع التواصل باللغة الفرنسية في معاملاتها الرسميَّة والالتزام باللغة العربية بدلًا منها، ويأتي هذا القرار الجزائري في سياق تدهور العلاقات الجزائرية الفرنسية، وذلك لعدَّة أسباب من بينها إعلان فرنسا تقييد منح تأشيرات السفر بالنسبة إلى الجزائريين بسبب قضايا مرتبطة بالهجرة غير الشرعية، بالإضافة إلى تصريحات الرئيس ماكرون التي عُدت مسيئة لتاريخ الجزائر، وهو ما أدى بالجزائر إلى سحب سفيرها من باريس.

ويعيد قرار الوزارات الجزائرية طرح قضية مكانة اللغة الفرنسية في المجال العام الجزائري، خصوصًا أنَّها اللغة الأكثر حضورًا في مجالات الاقتصاد والإدارة والتعليم العالي، بالإضافة إلى استخدامها من طرف الجهات الحكومية والسفارات، وحتى في خطابات المسؤولين، كما تُثار تساؤلات حول جديَّة السلطات الجزائرية في التخلي عن اللغة الفرنسية لصالح اللغة العربية؛ إذ تشكك البعض في جدية الخطوة الأخيرة على اعتبار أنها مجرَّد ردة فعل على الأزمة الدبلوماسية التي تعرفها العلاقات مع فرنسا.

من التجريم إلى المقاومة.. اللغة العربية في عهد الاستعمار الفرنسي

«إن المعجزة الحقيقية التي يمكن صناعتها تكمن في إحلال اللغة الفرنسية شيئًا فشيئًا محل اللغة العربية» *الدوق دي روفيقو، الحاكم العام في الجزائر سنة 1832

عملت السلطات الفرنسية خلال الفترة الاستعمارية (1830-1962) على محو مقوِّمات الهوية الجزائرية بمختلف أبعادها من أجل إعادة صياغة المجتمع على أسس جديدة، لا تتضمن أي وسائل يمكن الاستناد إليها لمقاومة الحالة الاستعمارية، بالإضافة إلى إحداث قطيعة تامة مع التراث الجزائري وما يرتبط به من اللغة العربية والتاريخ والدين الإسلامي، واستبدال الثقافة واللغة الفرنسيتين به؛ باعتبار أن ثقافة السكَّان الجزائريين الأصليين أو «الأنديجان» كما كانوا يسمُّونها «متخلِّفة» من منظور أنثروبولوجي.

Embed from Getty Images

مظاهرة للحركة الوطنية الجزائرية عام 1960

وفي هذا الإطار اتَّخدت السلطات الفرنسية العديد من الإجراءات للتضييق على اللغة العربية، فمنذ سبتمبر (أيلول) 1904 أصبح فتح المدارس التي تعلِّم العربية ممنوعًا إلا برخصة من السلطات الاستعمارية، وإلى جانب ذلك جرى تشجيع تعلُّم اللغة العاميَّة الدارجة بدلًا من الفصحى التي عدها الفرنسيون «لغة قديمة وغير ملائمة للعصر مثل اللغة اللاتينية»، ولذلك جرى فتح مدارس تعلُّم اللغة العامية استخدمها الفرنسيون في منشوراتهم الموجَّهة للجزائريين، واستمرَّ التضييق على العربية الفصحى تدريجيًّا إلى غاية إصدار مرسوم سنة 1938 الذي يعد اللغة العربية «لغة أجنبية».

على النقيض من تلك السياسة، عملت الحركة الوطنية الجزائرية على تحويل اللغة العربية لوسيلة للمقاومة السياسية ضد الاستعمار؛ إذ دعم حزب «نجم شمال أفريقيا»، وزعيمه مصالي الحاج، مطلب إنشاء المدارس التي تدرِّس اللغة العربية منذ مؤتمر بروكسل سنة 1927، وشجب التضييق الذي تتعرَّض له المدارس الحرَّة التي تدرِّس العربية.

تاريخ

منذ سنتين
معركة باريس.. حين انتقلت الثورة الجزائرية إلى قلب فرنسا

وهو النهج الذي اتَّبعه فيما بعد «حزب الشعب الجزائري» و«حركة انتصار الحريات الديمقراطية» اللذيْن وُلدا من رحم «نجم شمال أفريقيا»؛ إذ أصدرا بياناتهما باللغة العربية، وطالبا برفع التضييق عليها واستعملاها في صحفهما ومنشوراتهما وأناشيدهما الوطنية.

وقادت «جمعية العلماء الجزائريين» هي الأخرى النضال، منذ تأسيسها سنة 1931، من أجل تكريس اللغة العربية في الجزائر، وعدتها جزءًا لا يتجزأ من الشخصية الجزائرية طوال الفترة الاستعمارية، وضمَّنتها في شعار الجمعية «الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا»، وأنشأت الجمعية نحو 300 مدرسة في مختلف أرجاء الجزائر لتدريس العربية، في محاولة لخلق نظام تعليمي موازٍ لذلك الذي أنشأه الاستعمار والذي يدرِّس باللغة الفرنسية.

وقوبلت سياسة الاستعمار في محو اللغة العربية من طرف الحركة الوطنية بالتشبُّث بهذه اللغة وعدِّها أداة من أدوات النضال والمقاومة ضد الاستعمار، وفي تصديره لكتاب فرانز فانون «معذَّبو الأرض»؛ تطرَّق الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر إلى السياسة الفرنسية الاستعمارية تجاه اللغة العربية في الجزائر بقوله: «إن العنف الاستعماري لا يريد المحافظة على إخضاع هؤلاء البشر المستعبدين، وإنما هو يحاول أن يجردهم من إنسانيتهم، إنه لن يدخر جهدًا في أن يقضي على تقاليدهم، ومن أجل أن يحلَّ لغتنا مكان لغتهم».

بعد الاستقلال.. جهود التعريب تندثر في رمال الواقع

واجهت الجزائر بعد استقلالها عن فرنسا 1962 معضلة وجود مسافة بين الشعارات والمطالب المرفوعة في وجه الاستعمار وبين الواقع الذي تعرفه البلاد التي كانت تشهد نسبة أميَّة وصلت إلى 90%، فضلًا عن أن الأغلبية الساحقة من الفئات المتعلِّمة نالت تعليمها بالفرنسية، وهو ما جعل اللغة الفرنسية تسيطر على قطاعات الإدارة والاقتصاد والتعليم العالي ومختلف المناحي الرسمية.

وعلى الرغم من مرور نحو ستة عقود على استقلال الجزائر فإنها لم تتمكن من إحداث قطيعة تامة مع الإرث الاستعماري، وذلك بسبب التركة الثقافية واللغوية الثقيلة التي عمرها 132 سنة والتي بقيت حاضرة في الثقافة السياسية الجزائرية ولدى المسؤولين بطبيعة الحال.

فقد ضمت «جبهة التحرير الوطني» التي أنجزت عملية الاستقلال عددًا غفيرًا من النخب الذين درسوا بالفرنسية وتلقَّوا تكوينهم السياسي في فرنسا، فضلًا عن النخب العسكرية المفرنسة التي استعان بها النظام السياسي الجزائري إثر الاستقلال من أجل هيكلة الجيش من الصفر.

ويُضاف إليهم الجالية الضخمة من العمَّال الجزائريين الذين هاجروا إلى فرنسا إثر الاستقلال بحثًا عن العمل بسبب نسب البطالة المرتفعة، واستقرارهم فيها فترات طويلة قبل عودتهم، ورغم أن اللغة العربية بدأت توجد في المدارس منذ أول عام دراسي تعرفه الجزائر المستقلة سنة 1962، فإن التأثير الفرنسي بقي حاضرًا في الجزائر طوال العقود التي تلت الاستقلال.

Embed from Getty Images

الرئيس بوتفليقة مع الرئيس الفرنسي جاك شيراك

ورغم الوجود الطاغي للغة الفرنسية فقد بذلت الجزائر مجهودًا شاقًّا لمعالجة إشكالية اللغة بها، واستعانت بمعلِّمين من المشرق العربي، من مصر وفلسطين ولبنان لتدريس الجزائريين، في الوقت الذي كانت تعاني فيه البلاد نقصًا حادًّا في قطاع التعليم، وهو ما ساهم بقدر ما في سدِّ الهوة بين اللغة العربية والشعب، وفي تشكيل طبقة مثقَّفة معرَّبة نوعًا ما، لكن مكانة اللغة العربية بقيت متواضعة داخل دواليب الإدارة والمعاملات الرسمية والتعليم والاقتصاد.

ودفع هذا «جبهة التحرير الوطني»، المنبر السياسي الوحيد حينها في ظلِّ نظام الحزب الواحد، لعقد ندوة وطنية حول التعريب بحضور الرئيس هواري بومدين، والذي أبدى موافقته على مخرجاتها، إلا أن هذه القرارات بقيت حبرًا على ورق على أرض الواقع.

إذ ليس هناك إجماع داخل أروقة الدولة على مشروع التعريب في ظل وجود ما يُعرف بـ«النخب المفرنسة» داخل النظام السياسي، والتي راكمت امتيازات سياسية واقتصادية منذ الاستقلال، وتعمل على عرقلة المشروعات التي تهدف لدعم اللغة العربية.

وقد شهدت الجزائر منذ الاستقلال العديد من الصدامات بين النخب المعرَّبة والمفرنسة، من بينها ما وقع لوزير التعليم الأسبق، أحمد بن محمد، خلال مطلع التسعينيات، الذي حمل مشروع تقليص مساحة اللغة الفرنسية في قطاع التعليم والانفتاح على لغات أخرى مثل الإنجليزية، إلا أنه تعرَّض لما وُصف بـ«المؤامرة» من خلال تسريب أسئلة امتحان الثانوية العامة لإجباره على الاستقالة، وقد جرى التراجع عن مشروع الانفتاح على اللغات من غير الفرنسية مباشرة بعد مغادرته الوزارة.

في هذا السياق، يشير ناصر جابي، أستاذ علم الاجتماع السياسي في جامعة الجزائر سابقًا، إلى أن أحد إفرازات الأزمة اللغوية في الجزائر، هي الازدواجية التي تعيشها النخب الثقافية والسياسية، فالنخب المعرَّبة لها إعلامها وجرائدها ورموزها الثقافية والأدبية، وكذلك النخب المفرنسة، وهو ما يؤدي إلى انقسام واستقطاب سياسي شديد في قضايا الهويَّة والثقافة، والذي مردُّه على أساس اللغة.

التخلِّي عن الفرنسية.. قرار مبدئي أم مناكفة سياسية؟

إحدى الإشكاليات التي أثارتها نقاشات التعريب في الجزائر تمثلت في موقف الدولة من اللغة الأمازيغية التي هُمِّشت بصورة كبيرة منذ الاستقلال، وغابت تمامًا عن الدستور الجزائري الذي عد اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة؛ كما جرى منع الأسماء الأمازيغية وجرى التضييق على الناشطين السياسيين الذين طالبوا بالحفاظ على الهوية الأمازيغية لغة وثقافة وإدراجها في الدستور.

فلأن النظام الجزائري بعد الاستقلال، خصوصًا في عهد الرئيسين بن بلة وبومدين، اصطفَّ مع معسكر الأنظمة القومية العربية؛ فإن الحركات الأمازيغية عدت التعريب مشروعًا يهدف إلى محو هويَّة الأمازيغ وتراثهم وتهميش لغتهم، وبقيت اللغة العربية ضحيَّة لهذا الصراع، في حين عُدت اللغة الفرنسية من طرف هذا التيَّار «غنيمة حرب» وأداة من أدوات التقدُّمية والتنوير، ومدخلًا إلى الثقافة العالمية.

وبفعل نشاط الحركة الأمازيغية المتنامي تراجعت الدولة عن قانون تعميم استخدام اللغة العربية في مطلع التسعينيات في عهد الرئيس السابق علي كافي، ثم مرَّة أخرى في عهد الرئيس السابق اليامين زروال؛ في ظلِّ ضغط الحركات الثقافية الأمازيغية التي عدت «التعريب» تنكُّرًا للهوية الأمازيغية وأداة للهيمنة الثقافية العربية، حسب وصفهم، وقد شهد موقف الدولة من اللغة الأمازيغية تغيُّرًا معتبرًا منذ الاستقلال؛ إذ عُدَّت لغة وطنية سنة 2002 ثم جرى ترسيمها في التعديل الدستوري سنة 2016.

Embed from Getty Images

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون

ومع إعلان عدَّة وزارات تخلِّيها التام عن اللغة الفرنسية واستبدال اللغة العربية بها حصرًا مؤخرًا، أثيرت تساؤلات حول جدِّية هذا التحوُّل، خصوصًا وأنه يأتي في توقيت تشهد فيه العلاقات بين الجزائر وفرنسا تدهورًا ملموسًا؛ إذ كانت الجزائر قد استدعت السفير الفرنسي في أكتوبر 2021 ردًّا على تصريحات للرئيس الفرنسي ماكرون عُدت مسيئة للتاريخ الجزائري.

وقد عُد إعلان هذه الدوائر الحكومية التخلِّي عن الفرنسية مجرَّد مناكفات سياسية من طرف بعض الأكاديميين، ورد فعل انفعالي ضد المستعمر القديم من أجل الحشد الداخلي، ولا يعكس تغيُّرًا عميقًا في توجُّه النظام الجزائري، خصوصًا أن مثل هذه المبادرات ليست جديدة تمامًا، ففي سياق الحراك الشعبي الذي عرفته البلاد سنة 2019؛ أعلن وزير التعليم العالي حينها التخلِّي عن اللغة الفرنسية لصالح اللغة الإنجليزية، لكن دون أية آثار ملموسة على أرض الواقع.

المصادر

تحميل المزيد