لم يتبقَ على انعقاد الانتخابات الرئاسية في تونس سوى تسعة أشهر، ومن المتوقّع أن تشكّل منعطفًا استثنائيًّا في المشهد السياسي التونسي، في ظل رغبة عدّة أطراف سياسيّة في الدفع بمرشحين إليها، لخلافة الرئيس التونسي الحالي الباجي قايد السبسي البالغ من العمر 92 عامًا، الذي يسعى هو الآخر للاستمرار بطرق شتى، أو للدفع بنجله وريثًا محتملًا للحكم.
وتكثر التكهّنات حول مُرشّح حزب النهضة التونسي المُحتمل في هذه الانتخابات، خصوصًا وسط التسريبات التي عزّزتها تصريحات رسمية من بعض كوادر الحزب، تقول إنّ مرشّحها سيكون رئيس الحركة راشد الغنوشي، لتُطرح تساؤلات عن فرصه في الترشّح والفوز، وسياساته المُحتملة إذا استطاع الوصول إلى قصر قرطاج.
يترشّح الغنّوشي أو لا يترشّح؟ سؤال يحيّر الطبقة السياسية التونسية
في الأسبوع الأول من يناير (كانون الثاني) العام الجاري، خرجت النائبة عن «حركة النهضة» يمينة الزغلامي، عن حالة الصمت التي سادت أوساط أكبر الأحزاب الإسلامية، حول استعدادها للانتخابات الرئاسية القائمة، لتقول في مُداخلة إذاعية مع أمواج إذاعة «الديوان إف إم»: إنّ راشد الغنوشي هو مرشّح الحركة للانتخابات الرئاسية وفق القانون الأساسي.
الرئيس التونسي يلتقي الغنوشي في القصر الجمهوري
وأبقت النائبة عن الحركة الإسلامية الاحتمالات مفتوحة أمام ترشّح الغنوشي من عدمه؛ وفقًا لظروفه الشخصية، لكنّها برّرت هذا الترشح للشخصيّة الأهم في الحركة الإسلامية بتونس، قائلة: «راشد الغنوشي منتخب من آلاف المشاركين في مؤتمر (حركة النهضة)؛ وقد خصّص كلّ وقته منذ الثورة لتحسين صورتها وتحقيق التوافق».
واستبق الغنوشي هذا الحديث بتصريحات مُماثلة، في حوار نشرته صحيفة «الخبر» الجزائرية في 14 مايو (أيّار) العام الماضي، حين ذكر أن مسألة ترشحه للانتخابات الرئاسية المقبلة المقرّرة في عام 2019 بتونس «لم تحسم بعد، وأن الأمر مرتبط بمصلحة الانتقال الديمقراطي في البلاد».
ويمكن لمُتابع تحركات الغنوشي في الأشهر الأخيرة ملاحظة نشاط ملحوظ داخليًّا وخارجيًّا، سواء بالمُشاركة في اجتماعات القصر الرئاسي بدعوة من رئيس الجمهورية وحضور كوادر حكومية، أو من خلال زياراته الخارجية، مثل مُشاركته في تنصيب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أو حضور منتدى دافوس الاقتصادي.
وقد قطع الغنّوشي كُل هذه الاحتمالات، خلال حضوره ندوة نظّمها «مركز الدراسات الاستراتيجية والدبلوماسية» في العاصمة تونس بمناسبة الذكرى الثامنة للثورة، عندما أكّد أنه لا ينوي الترشّح لانتخابات الرئاسة المقررة العام الحالي، لكنّه أكّد أيضًا أنّ حزبه سيكون له مرشّح لخوض هذه الانتخابات. غير أن مصادر تونسية من داخل «حركة النهضة» أكدت لموقع «ساسة بوست» أن كُلّ التصريحات السابقة مجرد اختبار لقياس ردّ فعل ناخبي الحركة والناخبين التونسيين عمومًا، خصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي.
وأشار المصدر إلى أنّ الاحتمال الأرجح هو الدفع بمرشّح من خارج الحركة، مدعومًا بشكل علني من «النهضة» التونسية، بينما يظل الغنوشي نافذًا وصانع القرار الرئيسي من وراء الكواليس؛ ويبرر المصدر ذلك بقوله: «الغنوشي لا يريد للنهضة أن تكون هي من تتحمّل المسؤولية وحدها». وقد سبق وأن قال الغنوشي خلال الندوة سالفة الذكر، إنه لا يطمح إلى الرئاسة.
بدورها، تقول شيراز بن مراد، مؤسسة موقع «الجمهورية» التونسي، في تصريحات خاصة لموقع «ساسة بوست»: «ليس هناك أدنى شك أن زعيم (حركة النهضة) راشد الغنوشي لديه من الخبرة والصفات ما يؤهله للترشح للرئاسة، فالبعض -وليسوا من أنصاره- يرون فيه داهية سياسية وأذكى سياسي تونسي، لكن المشهد السياسي المتحوّل لا يمكن أن يضمن لهذا الطرف أو ذاك، نِسبًا مهمة تسمح بالفوز بالرئاسية؛ ناهيك عن أن بعض الوجوه التجمعيّة المحسوبة على النظام السابق تُشكل عائقًا رئيسيًا أمامه».
وتصف شيراز كُل هذه التصريحات المتضاربة حول ترشّحه من عدمه بأنّها «مجرد بالونة اختبار»، قائلة: «ما زالت الأوراق غير واضحة؛ خاصة أن (حركة النهضة) دخلت في تحالف شبه معلن مع رئيس الحكومة يوسف الشاهد، بعد الانشقاق الذي عرفه (نداء تونس) حزب الرئيس الباجي قائد السبسي، وخلاف الزعامة بين ابنه حافظ قايد السبسي، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد. هذا التحالف السياسي قد تكون له تداعيات وحسابات ما زالت لم تتضح لحد الآن»، متسائلة: «هل ترشّح النهضة وحزب يوسف الشاهد الجديد الغنوشي أم الشاهد للانتخابات الرئاسية؟».
وتُرجّح شيراز خيار اتجاه «النهضة» لدعم مُرشّح من خارج الحركة، لأسباب لها علاقة بسِنّ الغنوشي الذي يشارف على الثمانين، بالإضافة إلى تطوّر الوضع الاقتصادي والاجتماعي الحالي: أزمة اتحاد الشغل والحكومة، والمالية العامة، والاحتقان الشعبي على تردي المقدرة الشرائية، وغيرها من الأزمات، وما قد ينجرّ عنه من تداعيات نتائج التحقيق في ملف الاغتيالات السياسيّة، والتي قد تشكل عاملًا مؤثرًا في فرص «النهضة» في دعم مرشح رئاسي.
ويحمل هادي يحمد، وهو إعلامي وباحث تونسي متخصّص في الحركات الإسلامية، رأيًا يتقاطع مع ما ذكرته شيراز حول الأسباب التي تُرجّح عدم دفع النهضة التونسية بالغنوشي في الانتخابات التونسية، قائلًا في تصريحات خاصة لموقع «ساسة بوست»: «ما وقع من بعض قيادات النهضة كانت تصريحات متفرّقة، تقول بأن للنهضة مرشّحها، فذهب العديدون إلى اعتبار أن هذا المترشح هو راشد الغنوشي».
ويضيف يحمد: «لمن يعرف طريقة عمل رئيس (حركة النهضة) يدرك أنّ الرجل لا يطمح في أن يتحمل مسؤوليات مباشرة، هو فقط يريد أن يكون نافذًا دون أن يكون في الصف الأول لتحمل المسؤوليات»، موضحًا أن هذا هو الحال منذ عودة «حركة النهضة» إلى النشاط السياسي العلني، إذ كان الغنوشي يدير دفة الحكم عن طريق وسائط من قيادات حزبه، مثل حمادي الجبالي، وعلي العريض، وغيرهما.
وشهدت الأعوام الماضية عقِب الثورة التونسيّة العديد من وقائع الاغتيال لرموز سياسية، وسط اتهامات تلاحق «حركة النهضة» من طرف خصومها بامتلاك جهاز سري للاغتيالات، والتجسس على وزارة الدفاع والأمن وشخصيات سياسية وإعلامية، رغم نفي «النهضة» التام هذه الاتهامات.
وعزّز من تأثير ربط «حركة النهضة» التونسية بالاغتيالات، ما نشرته الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية على «فيسبوك»، من اتهامات حزب الجبهة الشعبية لـ«حركة النهضة» بامتلاك جهاز سري متورط في اغتيال القياديين اليساريين: شكري بلعيد، ومحمد البراهمي عام 2013، وهو ما تم تفسيره من جانب المحللين بمحاولة استخدام السبسي هذا الموضوع للتأثير في فرص «النهضة» في الانتخابات الرئاسية المُقبلة؛ بعدما تأكد ترشح النهضة فيها.
ويُكمل الباحث يحمد: «ولكن بالمقابل، من المؤكد أنّ (النهضة) ستُقدّم مرشّحها للانتخابات الرئاسية، والذي لن يكون بالضرورة عضوًا في (حركة النهضة)، فهناك مسار جديد اتخذته (حركة النهضة) منذ 2013، عام الاغتيالات السياسية، إذ قرّرت عدم تحمّل مسؤولية الحكم وحدها، القراءة الجيدة والاستراتيجية للمشهد السياسي في تونس تدفع (النهضة) نحو المشاركة في السلطة، دون أن تكون المتحمل الرئيسي للمسؤولية»، ويُنهي حديثه بالقول: «الأكيد سيكون للنهضة مرشحها، ولكن لن يكون بالضرورة عضوًا عاملًا في الحركة».
ماذا سيتغير في تونس بوصول النهضة للحُكم؟
نجحت «حركة النهضة» التونسية، على مدار الأعوام التي بقيت فيها خارج الحكومة، في الشروع نحو حصد الأغلبية التصويتية بالعديد من الفعاليات السياسية؛ لتصبح هي المتحكّمة في موازين القوى داخل مجلس النواب، وكذلك الحال نفسه لمعظم المجالس البلدية والجهويّة، وذلك بحكم تماسك كتلتها البرلمانية، والعدد الضخم لمستشاريها البلديين.
وتذهب أغلب الاحتمالات إلى دفع «حركة النهضة» التونسية بمرشح رئاسي من خارج الحركة مدعوم من جانبها؛ والذي سيكون على الأرجح يوسف الشاهد، رئيس الحكومة التونسية الحالي، بوصفه وسيلة غير مباشرة للسيطرة، وتفاديًا كذلك للانتقادات واتهامات محاولة السيطرة على مفاصل الدولة من جانب الأحزاب اليسارية.
لقاء سابق يجمع الغنوشي مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
ويمكن القول إن نجاح الحركة الإسلامية في دعم مرشّحها للوصول إلى منصب الرئيس؛ سيعزز من هيمنتها السياسية بشكل يبدو أكثر فاعلية مما هو عليه في المرحلة السابقة، خصوصًا في الملف الخارجي وتحالفاتها الخارجية، لكنها ستبقى دومًا حريصة على تشكيل حكومة تكنوقراط توافقية، دون أن تستأثر بها، رغم حقها الدستوري في ذلك، وهو الأمر الذي يبدو واضحًا من تتبع تصريحات الغنوشي في العامين الأخيرين.
ولا يُرجح على أيّ حال أن تمضي الحركة الإسلامية نحو تشريع قوانين أكثر تشددًا، كما يروّج خصوم الحركة السياسيّة، خصوصًا أن حُكمها قبل ولاية الباجي السبسي لم يتّجه من قريب أو بعيد للتضييق على مستوى الحريات الفردية؛ بل يذهب الغنوشي أبعد مما يطالب به التيار العلماني في قضايا الحقوق والحريات وحقوق المرأة.
في ما يتعلق بالملف الخارجي، وهو ربما الذي سيشهد الكثير من التغييرات حال وصول مُرشح «حركة النهضة» لمنصب الرئيس؛ من المرجّح أن تميل الحركة إلى التحالف التركي القطري، مع علاقات متوازنة مع الحلفاء الإقليميين، ونفور مُستبق من التحالف الإماراتي السعودي المصري، في ظل حالة العداء الواضحة من جانب مسؤولي البلدان الثلاث للحركة، مما يشير إلى توتّر محتمل في العلاقات بين تونس وهذه البلاد؛ حال وصول مُرشح النهضة إلى القصر الرئاسي.
ولعل المؤشر الأهم على التوتر المحتمل المستقبلي بين تونس، وهذه الدول، هو الغضب الإماراتي من الرئيس التونسي الحالي، بعدما أشرك النهضة التونسي في المشاورات الدائمة لسياسات البلاد؛ لتتراجع عن تقديم الدعم المالي والسياسي للرئيس التونسي، فضلًا عن عدم تخصيص مقابلة بينه وبين ولي عهد أبوظبي خلال أكثر من زيارة للرئيس التونسي الساعي لتذويب الخلافات؛ إذ تركن السياسة الإماراتية إلى ضرورة تغييب «النهضة» التونسية تمامًا عن الحياة العامة، والمجلس التشريعي الذي تحظى «النهضة» بتمثيل كبير داخله.