في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 2021 جرى اكتشاف أول حالة من المتحور من فيروس كورونا (أوميكرون) في جنوب أفريقيا، لتعلن بعدها العديد من الدول الأوروبية الأخرى، بما في ذلك إسبانيا، والبرتغال، والدنمارك، وألمانيا، وجمهورية التشيك، وإيطاليا، وبلجيكا، أنها اكتشفت حالات إصابة بسلالة فيروس كورونا الجديد.

ومنذ تلك اللحظة ودول العالم في خوف من تباطؤ النمو الاقتصادي والعودة إلى إجراءات الإغلاق ولو بشكل جزئي؛ مما يعني إعاقة مسار التعافي الاقتصادي، والعودة إلى الانكماش في بعض دول العالم، فيما قد تجد دول أخرى نفسها أمام مخاطر انخفاض النشاط الاقتصادي مرة أخرى، أو مخاطر الدخول في ركود تضخمي، أو انخفاض موارد الصادرات خصوصًا في الدول المعتمدة على تصدير الطاقة، مثل دول الخليج العربي.

وحتى الآن لا يمكن الجزم بمقدار الأثر الذي سيخلفه المتحور الجديد على الاقتصاد؛ إذ يتعلق ذلك بخصائص «أوميكرون» من ناحية سرعة انتشاره التي تبدو أكبر مما سبقه من متحورات كورونا، وكذلك من ناحية شدة أعراض الإصابة به، والتي لا يتوافر أي دليل حالي على إظهاره أعراضًا قوية، بل إن ملاحظات العلماء تقتصر على أعراض خفيفة من المرض، رغم مخاوف العلماء من ألا يكون المتحور الجديد مستجيبًا للقاحات الحالية.

وعلى الرغم من استبعاد فرضية العودة إلى إجراءات الإغلاق بنفس الشدة التي شهدها العالم عند بداية الجائحة، لكن بعض الدول قد تخسر كثيرًا جراء تشديد الإجراءات فيها أو في الدول التي تتعامل معها، ويبرز من هذه الدول كل من: ألمانيا، والسعودية، وروسيا، فلماذا قد تخسر هذه الدول أكثر من غيرها بسبب المتحور الجديد «أوميكرون»؟ 

ألمانيا.. محرك النمو الأوروبي المتعثر

سجلت ألمانيا واحدة من أسوأ معدلات نموها خلال عام 2020 بسبب الجائحة؛ إذ سجلت معدل نمو سالب نسبته 4.6، وهو أفضل قليلًا من النمو السالب الذي شهدته عام 2009 بسبب الأزمة المالية العالمية، والذي كانت نسبته 5.7، وكانت برلين تسجل معدلات قبل الجائحة أعلى قليلًا من 1% في عامي 2018-2019. 

ومن المتوقع أن تسجل دول الاتحاد الأوروبي نموًا نسبته 5% خلال عام 2021، بينما يتوقع أن تسجل ألمانيا ما نسبته 2.6% خلال 2021، وهو تقريبا نصف معدل النمو الذي ستشهده أوروبا، وقد جرى تخفيض هذا التوقع من 3.5% خلال هذا العام عقب الانتخابات وترقب تسليم السلطة إلى تحالف جديد، وقبل الإعلان عن المتحور «أوميكرون» ووصوله إلى ألمانيا. 

وقبل اكتشاف حالات مصابة بـ«أوميكرون» لم يكن الوضع الوبائي في ألمانيا جيدًا؛ فقد سجلت ألمانيا أرقامًا قياسية في الإصابات بلغت أربعة أضعاف نسبة الإصابات إلى الفحوصات التي حددتها الحكومة «خطًا أحمر»، وبارتفاع ضخم عن الإصابات التي سجلت قبلها بأسبوع، وتحديدًا في 24 نوفمبر 2021 بزيادة 25% تقريبًا.

ومع تفاقم الوضع الوبائي في ألمانيا بدأت الحكومة بالتفكير بفرض إجراءات مشددة مشابهة لإجراءات النمسا، بدءًا من تقييد حركة من لم يتلق اللقاح في ظل المخاوف من امتلاء المستشفيات، وعدم قدرتها على استقبال حالات أخرى، وهو ما يحدث بالفعل في بعض المناطق الألمانية، مثل بافاريا.

وقد ظهرت التوقعات المنخفضة للنمو الألماني خلال عام 2021 قبل تسجيل هذه المعدلات المرتفعة من الإصابات بفيروس كورونا، وسبقت أيضًا الإعلان عن متحور «أوميكرون»؛ الأمر الذي يُنذر بضربات أخرى للاقتصاد الألماني قد تؤثر سلبًا على أفق التعافي في عام 2022. 

ويعتمد الاقتصاد الألماني على تصدير منتجاته التنافسية لبقية دول العالم، ضمن تجارة عالمية حرة ومنفتحة، إلا أنه في السنوات الأخيرة بدأت ألمانيا تواجه صعوبات جمة في ذلك، وصلت ذروتها مع جائحة كورونا، وتتلخص أسباب ذلك في انتهاء عصر التجارة المعولمة السهلة، بسبب التوترات السياسية العالمية، والتوجه أكثر إلى سياسات حمائية لدعم الإنتاج المحلي في العديد من الدول.

وتضاعفت سياسات الحمائية مع مجيء الجائحة التي عطلت سير عمليات التجارة العالمية، وتزامن ذلك مع ارتفاع تكاليف الشحن والنقل؛ ما يعني ارتفاع تكلفة الصادرات نفسها، وجعلها أقل تنافسية وجاذبية، كما أن الصين، المستورد الأكبر للبضائع الألمانية، بدأت بالتحول إلى منافس لألمانيا في السوق العالمية، وبالإضافة إلى ذلك فإن التوجه العالمي نحو الطاقة البديلة والسيارات الكهربائية أضر صناعة السيارات الألمانية.

ويضاف التضخم إلى المشكلات الراهنة في ألمانيا؛ إذ يعتمد النمو الألماني بشكل كبير إلى نمو مشتريات المستهلكين المحليين، إلا أن التضخم المرتفع نسبيًا في ألمانيا، والذي بلغ 4%، يعني انخفاض القدرة الشرائية للمستهلكين الألمان، وضعف قدرة مساهمة طلبهم على حفز النمو في البلاد، وتؤثر الحالة الوبائية الحالية على توقعات المستهلكين والمنتجين، والتي قد تضر بمعدلات استهلاكهم وإنتاجهم المستقبلية؛ لتضاعف من حجم المشكلة في ألمانيا.

Embed from Getty Images

أولاف شولتس السياسي الأقرب لتسلم زمام السلطة بعد ميركل 

ومع تكامل العوامل الداخلية والخارجية في أكبر اقتصادات أوروبا، وأحد أهم مصدري العالم فإن انتشار المتحور الجديد من كورونا (أوميكرون) في ألمانيا قد يضاعف من التباطؤ الاقتصادي في ألمانيا، ويضرب التوقعات أكثر وأكثر، ويصعب المهمة على الحكومة الألمانية الجديدة، التي ستجد نفسها أمام خيارات صعبة، بين الإضرار بالاقتصاد عبر فرض إجراءات مضادة للموجة الجديدة من كورونا، أو حماية الاقتصاد والإضرار بالنظام الصحي في البلاد.

وحتى مع قدرة ألمانيا على السيطرة على الموجة الجديدة، فإن صادراتها ستتأثر مع عدم وجود أفق لحل مشكلات التجارة العالمية المتمثلة بتعطل سلاسل التوريد العالمي، واختناقات التجارة العالمية، ونقص المواد الأولية نتيجة لذلك، وارتفاع أسعارها وأسعار النقل أيضًا، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار النفط والغاز في أوروبا حاليًا.

روسيا والسعودية.. مخاوف انهيار أسعار الطاقة مجددًا

في بداية جائحة كورونا منيت الدول المصدرة للطاقة بخسار كبيرة بسبب جائحة كورونا! إذ سجلت أسعار النفط والغاز أرقامًا قياسية في الانخفاض، بسبب الإغلاقات وحظر التجول وضعف الطلب العالمي؛ إذ تأثرت مجمل قطاعات الاقتصاد في العالم بإجراءات الإغلاق بشكل كامل أو جزئي، ولفترات طويلة من عام 2020، ولا تزال بعض القطاعات لم ترجع إلى الانفتاح الكامل في 2021. 

Embed from Getty Images

وقفة احتجاجية لأصدقاء الصحافي جمال خاشقجي

وحققت روسيا نموًا سالبًا عام 2020 مثل أغلب دول العالم، وذلك بنسبة 3.5%، بينما حققت السعودية نموًا سالبًا نسبته 4% تقريبًا، مع مواجهة البلدين لتحديات خارجية كثيرة، أهمها بالنسبة لروسيا التوتر السياسي والعسكري مع أوكرانيا، وفيما تواجه السعودية تبعات حربها في اليمن، خصوصًا من ناحية تكلفتها الاقتصادية والديبلوماسية، بالإضافة إلى أزمة مقتل الصحافي جمال خاشقجي التي أثرت على علاقات السعودية الخارجية، والتي ما زالت إحدى ملفات الخلاف مع إدارة الولايات المتحدة الأمريكية الحالية. 

ويعتمد كل من البلدين بشكل كبير على صادرات الطاقة، فتمثل صناعة الطاقة حصة متزايدة من الاقتصاد الروسي بلغت في عام 2018 نحو 40% من الموازنة الحكومية، و60% من صادرات روسيا، رغم تبني الدولة الروسية خطة لتنويع اقتصادها، وزيادة وارداتها من مصادر أخرى، والانتقال إلى اقتصاد أقل اعتمادية على صناعة الطاقة، بينما تبلغ حصة الصناعة في الاقتصاد الروسي 50% من إجمالي الناتج المحلي الإجمالي.

فيما تبدو الصورة أسوأ في السعودية، التي تحتوي أرضها على 17% من إجمالي احتياطيات النفط في العالم، وتمثل صناعات الطاقة فيها 50% من الاقتصاد، و70% من إجمالي صادراتها إلى العالم، وبسبب انخفاض سعر النفط والغاز عالميًا في بداية جائحة كورونا، تضرر اقتصاد البلدين كثيرًا خلال عامي 2020، إلا أن ذلك بدأ بالتغير في عام 2021، وخصوصًا في النصف الثاني من العام. 

وتسبب الإعلان عن المتحور «أوميكرون» وإمكانية انتشاره عالميًا إلى تخوف الأسواق من عودة القيود على الحركة والتجارة العالميتين، وقد تسبب ذلك بانخفاض كبير في أسعار النفط في يوم واحد، إذ انخفضت أسعار نفط برنت الخام بـ11.5% في 26 نوفمبر 2021، ليصبح سعر البرميل 72.72$، بعدما كان سعره في حدود 80$.

Embed from Getty Images

صناعة النفط في روسيا

وقد زاد الخلاف على حجم الإنتاج العالمي من النفط، وخصوصًا بين السعودية وروسيا من جهة، والولايات المتحدة الأمريكية التي تريد زيادة الإنتاج من جهة أخرى، وقد سبب ذلك عمليات بيع كبيرة للنفط خوفًا من القادم، إلا أن الأسعار عادت للاستقرار والارتفاع قليلًا بعدها، وما زالت مرتفعة جدًا عن معدلاتها في بداية عام 2020، والتي شهدت انخفاضًا وصل إلى قرابة 20$ للبرميل.

لم يؤدّ المتحور الجديد من كورونا (أوميكرون) بعد إلى انهيار أسعار الطاقة في العالم، ومن غير المرجح أن يعيدها إلى معدلاتها أثناء أوج الجائحة في عام 2020، وربما تبين الأيام القادمة أن «أوميكرون» ليس بالخطورة التي أشيعت عنه، وبالتالي عدم التوسع في فرض إجراءات مشددة على الحركة والتجارة، إلا أن الخطر قائم بالفعل، خصوصًا أن الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من دول العالم تطالب برفع إنتاج النفط، وبالتالي انخفاض سعره من أجل تحفيز النشاط الاقتصادي في العالم نظرًا لانخفاض كلف الطاقة.

كل ذلك قد يؤثر على مسار التعافي الاقتصادي في روسيا والسعودية المتعمدتين بشكل كبير على النفط والغاز، والمحتاجتين إلى بيع كميات أكبر وبأسعار عالية لدول العالم لتحقيق التعافي الاقتصادي، وتوفير موارد أكبر للدولتين.

المصادر

تحميل المزيد