أنا رأيت كل شيء يتهدم.. أنذرتهم ألف مرة، لكنهم لم يصدقوا أو صدقوا ولم يبالوا
بهذا يصرخ الكاتب والروائي المصري أحمد خالد توفيق على لسان جابر، بطل روايته «يوتوبيا» التي تنبأت قبل أقل من عشر سنوات فقط بمستقبل كابوسي للمصريين، ينعزل فيه الأغنياء في مدينة (تشير الرواية أحيانًا إلى وجود عدة مدن مشابهة) محمية بالأسوار والجنود من ملايين الفقراء الذين تخلت عنهم الدولة تمامًا بعد استنزاف كل مواردهم وتركهم فريسة لبيئة غارقة في الظلام والقذارة، يسودها المرض والجهل والجوع والعنف والجرائم، يصرخ البطل بمزيج من القنوط والغضب، وكأنه نبي يرى هلاك قومه الذين اتخذوا قرآنه مهجورًا.
تزامنًا مع صعود اليمين المتطرف في أمريكا وبريطانيا وغيرهما من دول العالم الأول، والهزائم المتتالية للثورات في بلدان الربيع العربي لصالح أنظمة حكم تعاديها، انتشرت صورة على صفحات الفيس بوك الساخرة في السنوات الماضية، أحدهم صنع الصورة لتبدو اقتباسًا قاله جورج أورويل صاحب رواية «1984» الشهيرة «لقد كتبت تلك الرواية لتكون تحذيرًا، لا لتكون دليل استخدام لعينٍ»، ساخرًا بدوره من احتذاء تلك الحكومات لنظام الحكم الديكتاتوري الموصوف في الرواية.
لعل الأنباء القادمة عن العاصمة الإدارية الجديدة لمصر، ترسم حالة مماثلة مع رواية «يوتوبيا»،إذ يرى البعض بأن المدينة الجديدة ستكون جزيرة منعزلة تمامًا يعيش فيها الأثرياء والمسؤولون بعيدًا عن صخب الشعب وتقلباته، تمامًا كما تنبأ كاتب يوتوبيا قبل سنوات.
فهل عجز الأدباء عن المبالغة؟ هل عشنا حقًا لنرى أمام أعيننا مصير ثورة شعبية يؤول إلى أكثر نبوءات الأدب سوداوية؟ هل ينتصر الواقع للنبوءة ويخذل الحلم؟ أم لعله ولع المفارقة الأدبية يقود لاستنتاجات بعيدة عن الواقع؟
هل تتحقق النبوءة أمام أعيننا؟
المستعمرة المنعزلة التي كونها الأثرياء ليحموا أنفسهم من بحر الفقر الغاضب بالخارج، والتي صارت تحوي كل شيء يريدونه، يمكنك أن ترى معي معالمها، البوابات العملاقة، السلك المكهرب، دوريات الحراسة التي تقتل أي فقير يحاول التسلل للداخل دون تصريح، هناك منطقة المدارس، ومنطقة دور العبادة، ومنطقة المولات التي تضم قصور أباطرة الاقتصاد، وهناك أيضًا المطار الداخلي
إذا حذفت من الفقرة السابقة -المنقولة باختصار عن الرواية- العبارات التي تتحدث عن غضب الفقراء وقتلهم في «يوتوبيا»، فربما تخلط بين المدينة كما يصفها بطلها، وبين العاصمة الإدارية الجديدة كما يصفها المتحدث في الفيلم الذي أنتجته عنها إدارة الشئون المعنوية بالقوات المسلحة وأذاعته في احتفال رئيس الجمهورية بافتتاحها.
تقع العاصمة الجديدة على بعد حوالي 45 كيلو متر شرقي القاهرة في مساحة تقارب الـ700 كيلو متر مربع، فيما يتوقع أن تتسع لحوالي 7 ملايين نسمة، ويتحدث الفيلم عن منطقة أعمال مركزية، وحي حكومي يضم مقرات رئاسة الجمهورية والوزراء والبرلمان وأغلب وزارات الحكومة، ثمة حي دبلوماسي للسفارات، وحي سكني للموظفين، ومدينة طبية، ومدينة رياضية، ومدينة معارض، فضلاً عن مدينة للثقافة والفنون، ومدينة تكنولوجية ذكية، وحديقة مركزية كبرى، ومدينة ترفيهية، ومطار دولي، وتجمع شمالي باسم محمد بن زايد.
في العاصمة الجديدة أيضًا مقر جديد لما تصفه التقارير بـ«الكيان العسكري» الذي يعد بديلًا لوزارة الدفاع والهيئات التابعة للقوات المسلحة، والذي تم تصميم كل مبنى من مبانيه العشرة بشكل ثماني الأضلاع حيث يشار إلى أنه سيحمل اسم «الأوكتاجون»، وتشير التقارير أيضًا إلى أن هذا الكيان العسكري يمتد على مساحة 40 كيلو متر مربع، تربط بينها شبكة من الممرات والأنفاق الحصينة تحت الأرض، وهي بالمناسبة مساحة أكثر من 60 مرة ضعف مساحة البنتاجون الأمريكي، الذي يضم أكثر من 25 ألف موظف عسكري ومدني.
يعلق الدكتور «حازم حسني»، أستاذ الاقتصاد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، على ذلك التخطيط للعاصمة الجديدة قائلًا إنها لن تكون مجرد عاصمة إدارية، وإنما ستكون أيضًا عاصمة دبلوماسية، وقبل كل شيء عاصمة سياسية، مضيفًا أنهم يقولون إدارية من أجل المراوغة والتحايل على الدستور، فالدستور ينص على أن مدينة القاهرة هي عاصمة البلاد، وكان لا بد قبل اتخاذ أي قرار ببناء عاصمة جديدة أن يتم تعديل الدستور، فضلًا عن إجراءات تشريعية وإدارية كثيرة تسبق البدء فى الحديث عن هذه العاصمة.
وبالعودة إلى ملامح العاصمة كما تصفها التقارير، يمكننا أن نرى فيها وعودًا لقاطنيها وزوارها بترفٍ يضاهي نظراءهم في يوتوبيا، الحديقة المركزية مثلًا تقع على مساحة تقارب ثلاثة أضعاف مساحة سنترال بارك الشهيرة في نيويورك وستة أضعاف هايد بارك في لندن، ومنطقة الأعمال المركزية يتوسطها أعلى برج في أفريقيا.
وتضم العاصمة أيضًا فندق الماسة الذي يعد من أفخم الفنادق في العالم ومن أكبرها على مساحة 40 ألف متر مربع، وتكلف إنشاؤه – الذي تولته الهيئة الهندسية للقوات المسلحة – أكثر من مليار جنيه، كما تضم مدينة ترفيهية تبلغ مساحتها أربعة أضعاف مساحة ديزني لاند، ويفترض أن تكون أكبر مدينة ملاهي في العالم، وإلى جانب كل ذلك ستضم أكبر مسجد وكاتدرائية في مصر كلها.
من أين يأتي «الوطن الضائع» بالمال؟
تنفق الدولة ببذخ غير مسبوق على المشروع، يطمئن السيسي القائمين عليه «لا تشغلوا بالكم بأي تكلفة»، ويستنكر على منتقديه قائلًا «خسارة فينا ولا إيه؟»، فمن أين جاء الرئيس بثقته المطلقة في إتمام المشروع وجدارته بالتنفيذ العاجل؟ كم تبلغ تكلفة المشروع أصلًا؟
تذكر التقارير أن إجمالي تكلفة إنشاء العاصمة الإدارية الجديدة تصل إلى 45 مليار دولار، أي ما يعادل تقريبًا ستة أضعاف تكلفة قناة السويس الجديدة، فكيف تتحمل الدولة هذه التكلفة الباهظة؟
هناك الدعم – غير الرسمي وغير المعلن – من الدول العربية الصديقة، كما يذكر الدكتور صلاح الدين فهمي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر، وأيضًا صندوق تحيا مصر، وبعض القروض الدولية والسندات، تذكر تقارير البنك المركزي أن الدين الخارجي لمصر ارتفع من 48 مليار دولار عام 2015 ليصل إلى 79 مليار في يونيو(حزيران) 2017، وهي فترة العمل في العاصمة الإدارية الجديدة حتى الآن.
وإلى جانب ذلك بالطبع يقع بعض العبء على الموازنة العامة، حيث أعلنت وزارة الإسكان عن تأسيس شركة تطوير العاصمة الإدارية الجديدة، برأس مال 6 مليارات جنيه، موزعة بين القوات المسلحة وهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة بوزارة الإسكان، وقد صرح وزير الإسكان، الدكتور «مصطفى مدبولي»، أن تمويل مشروع العاصمة الإدارية سيكون من الباب السادس للموازنة، التابع لهيئة المجتمعات العمرانية والمخصص لمشروعات المياه والصرف والخدمات الصحية والتعليمية.
تثير المعلومة استفهامًا آخر يبدو ساذجًا، هل تتمتع خدمات المياه والصرف والصحة والتعليم في مصر بمستوى من الجودة يؤهل للاستغناء عن هذه المليارات من ميزانيتها لصالح العاصمة الجديدة؟
توضح الأرقام الرسمية أن الصرف الصحي لا يصل إلى 44% من المصريين، 17% من مدن مصر و85% من قراها لا تتمتع بخدمة الصرف الصحي، أما الصحة والتعليم فحينما يأتي الحديث عنهما يعلن السيسي أن التعليم لا يفيد في وطن ضائع، وأن تطويره يحتاج إلى مليارات، وموارد الدولة قليلة، حتى لو احتشدت كلها لتطوير التعليم فربما يتطلب الأمر 15 عامًا، ويتساءل من أين يأتي بالمليارات الكافية لتطوير الصحة؟ وربما يفضل استثمار عشرة مليار جنيه في البنك والاستفادة من فوائدهم على تطوير السكة الحديد، ويواجه المصريين بما يؤلم بعضهم «محدش قال لك إن إنت فقير قوي؟ ياريت حد يقول لكم إن إحنا فقرا قوي»، ويقرر رفع الدعم عن الطاقة، الوقود والكهرباء، في خطة اقتصادية اشترطها صندوق النقد من أجل إقراض الدولة المصرية، ويتبرم الرئيس من شكاوى المواطنين من الغلاء «يقول لك أنا غلبان مش قادر.. وأنا كمان غلبان مش قادر».
لسبب ما لا أفهمه يصر هؤلاء على أن يعيشوا، لا تقاوم يا أحمق، ما الذي تمنحك إياه لحظات أخرى من العيش مع الأغيار؟ ما الذي لم تحققه في سنواتك العشرين السابقة وتنوي أن تحققه لو ظللت حيًا؟ فرارك هذا لا يختلف عن فرار الصرصور من على جدار مطبخ، أو أميبا تنزلق تحت عدسة مجهر، صرخة غريزة لا أكثر، إنه تفاعل التحاشي الذي زرعته الطبيعة فيك، وعليك أن تتعلم كيف تهمله كيف تظفر براحة استحققتها *بطل يوتوبيا مخاطبًا -في عقله- مواطنًا من «الأغيار» الذين يعيشون خارجها
المفارقة بين خطة رفع الدعم عن الخدمات الأساسية بذريعة «مصلحة المواطن»، وبين استهلاك المليارات من أموال الدولة، في منجزات من قبيل أكبر مدينة ملاهي، وأعلى ناطحة سحاب وأفخم فندق، تثير سؤالًا عن العلاقة بينهما.
تتبلور فكرة جديدة في وعي بطل يوتوبيا أثناء تأملاته في حياة «الأغيار»، باحثًا عن إجابة لمثل هذه المفارقة، فيقول: «الآن فقط أفهم لماذا عزلنا أنفسنا في يوتوبيا، لم يعد في هذا العالم خارجها إلا الفقر والوجوه الشاحبة التي تطل منها عيون جوعى جاحظة متوحشة، منذ ثلاثين عامًا كان هؤلاء ينالون بعض الحقوق، أما اليوم فهم منسيون تمامًا».
«خط ما بين الاتنين بيفوت»
لعل الكاتب حين «تنبأ» بما يقع فيها لم يبن ذلك على خيالات في الهواء، وإنما استند إلى واقع البلاد في العقد الأول من القرن الحالي، تلك السنوات التي علا فيها نجم المدن والتجمعات السكنية الفاخرة؛ الرحاب ومدينتي وأخواتهما، وأخذت الهوة تتسع شيئًا فشيئًا بين سكانها وغيرهم من المواطنين العاديين.
بتنا في السنوات الأخيرة نرى مشاهد مثل السيدة التي صدمت واستنكرت بشدة – على صفحة تخص سكان إحدى تلك المدن على الفيس بوك – رؤيتها لخادمة تجلس على منضدة تجاورها في أحد كافيهات المدينة، والأدهى أن الخادمة كانت تلبس ثيابًا حسنة وتجلس مع صديقها وتلتقط صورًا للفيس بوك! وهو ما أثار بشدة استياء السيدة.
تتساءل السيدة في ذهول كيف يتواجد العمال والخادمات في المدينة في غير أوقات العمل؟ قبل أن تتهم الأمن بالتقصير. هذا المطلب تحديدًا بخصوص ضبط حركة دخول وخروج «الأغيار» – بتعبير رواية يوتوبيا- من وإلى تلك المدن والتجمعات الفاخرة تكرر كثيرًا خلال السنوات الماضية من سكانها عمومًا.
أما الحكومة من جانبها، فقد سعت أولًا في الشهور التي تلت الثورة المصرية إلى تأمين منشآتها في قلب العاصمة بالأسوار وإغلاق الشوارع المؤدية إليها لسنوات، خشية الغضب الزاحف من الشوارع، قبل أن تبدأ في النزوح عنها بوزارة الداخلية التي انتقلت من وسط المدينة إلى التجمع الخامس في أقصاها.
يقول أحد أبطال الرواية من الأغيار لاثنين من أهل يوتوبيا: «الصورة التي ترونها كانت موجودة منذ البداية لكن بشكل غير واضح، ثم تضخمت شيئًا فشيئًا.. يصير الأغنياء أغنى والفقراء أفقر، ثم تأتي لحظة يحدث فيها الانهيار، ويبدو لي أن هذا حدث في العشر سنوات الأولى من هذا القرن.. فجأة انهار السد، وجد الاقتصاد عليه عبئًا قاصمًا، وانعدمت الخدمات للفقراء لأن الدولة أعفت نفسها تمامًا من مسؤوليتهم وخصخصت كل شيء.. لم تعد هناك حكومة أو لم تعد هناك حكومة تعبأ بنا. مع الوقت توقفت الرواتب وتوقفت الخدمات.. كان آباؤكم من طبقة استطاعت أن تستخدم نفوذها للثراء.. حسابات مصرفية في الخارج، قروض من المصارف، احتكار.. كل شيء كان في مصلحة آبائكم وضدنا على طول الخط.. هكذا استطاعت هذه الطبقة أن تتماسك وتزداد ثراءً بينما هوينا نحن إلى الحضيض.. لكن الحياة معنا صارت أمرًا مستحيلًا.. اضطرت هذه الطبقات إلى أن تعزل نفسها طلبًا للأمان في تلك المستعمرات، إن فكرة أن يثور محيط الفقر هذا كانت تؤرقهم.. كل الثورات الشعبية في التاريخ بدأت بذبح الأثرياء».
يجدر هنا الإشارة إلى أن أن شركة رجل الأعمال هشام طلعت مصطفى التي تملك «مدينتي» قد تعاقدت على شراء أرض تبلغ 500 فدان في العاصمة الجديدة في صفقة تم الاتفاق على 4.4 مليار جنيه ثمنًا لها، ونال بعدها بشهرين عفوا رئاسيًا عن باقي عقوبته بالسجن التي كان يقضيها بتهمة التحريض على قتل الفنانة سوزان تميم.
يعبر بطل الرواية عن شعوره تجاه ما وصل إليه الحال «كان هذا كله أقبح من اللازم.. أبشع من اللازم.. أكثر واقعية مما يجب».
هناك خلل اجتماعي أدى إلى ما نحن فيه، لكنه خلل يجب أن يستمر، كل من يحاول الإصلاح يجازف بأن نفقد كل شيء، الآن فقط أفهم هذه الأسوار العالية ورجال المارينز والمطار الداخلي.. لو تركنا كل هذا لسال هذا الطوفان ليغرقنا ويقتلنا.. لا أعرف كيف وصل الأمر لهذا الحد لكن لا بد من أن يستمر
يحدث بطل الرواية المنتمي لأهل يوتوبيا نفسه، في لحظة إدراك، لم تمنع سيلان طوفان الفقراء الغاضبين بالفعل في نهاية الرواية ليغرق الجميع، إذ وكما يقول الأديب المصري عزت القمحاوي: «ليس في الإدراك أي نبل».