وسط الثلوج البيضاء التي يكفي طولها لدفن إنسان بأكمله، وفي مستويات حرارة شديدة الانخفاض لدرجة تجمّد بحر البلطيق، انطلقت كتائب الجيش الأحمر السوفيتي لغزو الجارة الغربية فنلندا من أجل ضمان ألا تصبح قاعدة مستقبلية لانطلاق الهجمات النازية من موانئها، لكن الحرب التي كان من المفترض أن تستمرّ أسابيع قليلة على الأكثر، وتكون بمثابة الانتصار السريع، والخاطف، وقليل التكلفة ضد دولة ضعيفة، وهامشية، في شمال أوروبا، تحوّلت إلى كابوس حقيقي لزعيم الاتحاد السوفيتي جوزيف ستالين، وكبّدت الجيش الأحمر خسائر فادحة قُبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية.
إنّها «حرب الشتاء» التي دارت بين الاتحاد السوفيتي وفنلندا، الدولة التي لا يتجاوز عدد سكّانها 3 ملايين نسمة، ورغم ذلك حقّقت انتصارات عسكرية مُبهرة خلال شتاء سنة 1939، وأضحت هذه الحرب مثالًا على تكتيكات الحرب بين الدول الصغرى في مواجهة القوى العظمى.
حرب الشتاء.. حين تشرّبت ثلوج فنلندا البيضاء بدماء «الجيش الأحمر»
مع حلول شهر يونيو (حزيران) 1940 كانت قوّات الاتحاد السوفيتي قد احتلّت دول البلطيق: أستونيا، ولاتفيا، وليتوانيا، ونصّبت فيها حكومات موالية للاتحاد السوفيتي بعد تهديدات بالتدخّل العسكري في حال رفضت هذه الدول إقامة قواعد عسكرية للسوفيت على أراضيها. كلّ المؤشّرات كانت تقول إنّ فنلندا ستلقى نفس مصير هذه الدول الصغرى، ليس فقط بسبب ضعفها العسكري وكونها جزءًا من الامبراطورية الروسية إلى غاية سنة 1917 فحسب، بل لسبب رئيس، هو قربها الشديد من مدينة لينينجراد الإستراتيجية على الحدود مع الاتحاد السوفيتي.
جنودهم كُثر وبلادنا صغيرة.. أين سندفن كلّ جثث السوفيت؟ *نكتة فنلندية خلال حرب الشتاء
ورغم توقيع اتفاقيّة «عدم التعرّض» في شهر أغسطس (آب) 1939 بين فنلندا والاتحاد السوفيتي، واستمرار المفاوضات حول تسويّة حدودية يأخذ بموجبها الاتحاد السوفيتي جزءًا من الأراضي الفنلندية مقابل عدم الغزو، إلا أنّ الفنلنديين أدركوا بأن طبول الحرب تُقرع، وأن الغزو السوفيتي مسألة وقت فحسب؛ فبدأوا في حشد كل قوّتهم العسكرية بمسوغ إجراء «تمارين خاصة».
كان الجيش الفنلندي يتكوّن من 280 ألف جندي بتسليح متواضع مقابل الخصم السوفيتي؛ إذ لم يكن يملك الفنلنديون سوى 400 قطع مدفعية قصيرة المدى، و32 دبابة فقط، أما سلاح الجو فكان يتكوّن من 110 طائرة حربية، من بينهم 75 طائرة مستعدّة للاشتباك، أما البحرية فكانت تتكوّن من أسطول صغير، ولكن ذو تجهيز حديث. في المقابل فإن قاعدة الكتيبة السوفيتية التي زحفت إلى فنلندا كانت تتكوّن من نصف مليون جندي سوفيتي، بالإضافة إلى 5700 مدفعية، و6500 دبابة، أما القوة الجويّة فتشكّلت من 300 طائرة حربية، بالإضافة إلى أسطول بحري قويّ، وهو ما يشير إلى تفوّق سوفيتي ضخم من ناحية العدد والعتاد العسكري.
كتيبة التزلّج الفنلندية خلال حرب الشتاء
على الورق كان مسألة قضية الانتصار في الحرب محسومة سلفًا، بالنظر إلى قوّة الجيشين، وكان من المفترض أن تنتهي الحرب بنصر خاطف للسوفيت كما توقّع الجميع، لكن فنلندا تجنّبت الحرب التقليدية المباشرة، واستطاعت أن تقلب معطيات الصراع من خلال تكتيكات خاصّة زاوجت بين التعبئة الشعبية العامة، والاستعانة بأهم مُحدّدات ميدان المعركة: الطقس والبيئة.
قد يبدو رقم 280 ألف جندي اعتياديًا بالنسبة لأيّ جيش في العالم، وهو بالتأكيد لا يُقارن بتعداد الجيش السوفيتي الذي وصل في أوّج اشتداد الحرب العالمية الثانية إلى 11 مليون مجنّد، لكن إذا علمنا أن عدد سكّان فنلندا حينها لم يكن يتجاوز 3.7 مليون نسمة، فإن هذا يعني أن الشعب الفنلندي بأكمله تحوّل إلى «أمّة تحمل السلاح»؛ إذ جرى استدعاء قوّات الاحتياط، وجيش الدفاع المدني المتكوّن من متطوّعين، والذين نالوا تدريبات تحضيرية منذ سنة 1935، وأضحت الأمّة بأكملها في حالة حرب لمواجهة هذا الخطر الوجودي الذي يتهدّد كيان الدولة.
دارت مجريات الحرب في درجات حرارة شديدة التدنّي وسط بيئة بيضاء بفعل الثلوج التي غطّت أراضي فنلندا بكثافة، وقد أعطى ذلك تفوّقًا للفنلنديين العارفين بالبيئة المحليّة، وبأساليب القتال في طقس مماثل، بالإضافة إلى ميزة القتال من أجل قضية وطنية واضحة: الحفاظ على استقلال البلاد وسيادتها من خطر الابتلاع من طرف السوفيت، وهو ما كان له دور بالغ في رفع معنويّات الجيش والتعبئة العامة في صفوف الأمّة الفنلندية التي شعرت بالتعرّض لخطر الزوال. واجه الفنلنديون الجيش الأحمر الذي عانى من نقص المؤونة الغذائية، وضعف المعنويات، وعدم التدرّب على طقس وبيئة مماثلة للبيئة الفنلندية، كما ينسب المؤرّخون الفضل لـ«تكتيك موتّي» في إعطاء التفوّق لفنلندا خلال معظم مجريات الحرب.
«تكتيك موتّي».. الخطّة التي أنقذت فنلندا من الهزيمة
كانت المناطق الحدودية بين فنلندا والاتحاد السوفيتي هي مسرح أحداث الحرب، وكون فنلندا تملك أكبر مساحة غابات في أوروبا أعطى الفنلنديين تفوّقًا لا شكّ فيه من خلال صعوبة تقدّم الدبابات السوفيتية داخل الغابات سوى في طرق محدّدة ومعروفة سلفًا للفلنلنديين، وهذا ما أعاق حركية الجيش الأحمر، وأبطأ من حركته.
امتصّ الجيش الفنلندي الهجوم الأوّل للسوفيت، والذي كان يطمح إلى الوصول للعاصمة هلسنكي في ثلاثة أسابيع، وقابلوه بالهجمات المضادة، وإستراتيجية خاصة لحرب العصابات تُعرف بـ«خطة موتّي» التي تعتمد على ثلاث مراحل: التقسيم، والإحاطة، والإبادة.
تُستخدم «خطّة موتّي» من طرف الجيش الأصغر ضد الجيوش الكبرى، بالإعتماد على السرعة وخفّة التنقل، وبذلك يلزمها معرفة دقيقة ببيئة المعركة، وتقوم بشكل رئيس على تقسيم كتيبة العدو الضخمة إلى مجموعات أصغر، وذلك من خلال هجمات خاطفة، ثم الإحاطة بها من عدّة جوانب، والقضاء عليها من خلال قصف كثيف من مختلف الجهات. كما تقوم الخطّة أيضًا على الإبهار والخداع وإيهام الخصم، فعلى سبيل المثال كان الفنلنديون يقصفون مقدّمة الكتيبة السوفيتية ومؤخرتها، من أجل إعطاء انطباع بالإحاطة الكاملة بهذه الكتيبة وهو ما يدفع مقّدمة الرتل العسكري للانفصال عن مؤخرته، كما كانوا يهجمون على أماكن تخييم الجنود السوفيت بصورة خاطفة، وفي ساعات مفاجئة من الليل قصد منعهم من النوم، والتأثير عليهم نفسيًا.
نموذج من تحصينات خطّ مانرهايم – المصدر: كتاب «خط مانرهايم 1920-1940»
مجموعات التزحلق على الجليد السريعة التي تتنقّل بسهولة على الثلوج كانت حجر الزاوية في «تكتيك موتي»، وساهمت بصورة فعّالة في إنجاح التكتيك في كثير الأحيان من خلال تقسيم الكتائب السوفيتية الضخمة إلى مجموعة أصغر.
أحاط الجنود الفنلنديون بهذه المجموعات السوفيتية الأصغر من كل الجوانب، واستخدموا الرشاشات الآلية في هجماتهم، ولكن في كثير من الأحيان فشلوا في آخر ركن من أركان التكتيك، وهو إبادة المجموعات الأصغر، وذلك بسبب التفوّق السوفيتي الضخم في الأعداد والعتاد؛ إذ إن التكتيك السوفيتي خلال فترة الحرب العالمية الثانية كان قائمًا على الكثرة العددية، سواء بالنسبة للجنود أو دبّابات؛ إذ تعوّض هذه الكثرة الخسائر التي يتكبّدها الجيش. وقد كان لهذه الميزة بالغ الأثر بالنظر إلى صغر الكثافة السكانية الفنلندية التي لم تكن تتجاوز 3 ملايين نسمة.
بعد أن استطاع الفنلنديون امتصاص الهجوم السوفيتي الرئيس، انتقلوا إلى المرحلة التالية من الحرب، وهي التحصّن في ما يُعرف بـ«خطّ مانرهايم» نسبة إلى القائم العسكري كارل جوستاف مانرهايم، الذي قاد الجيش الفنلندي خلال الحرب، وقد جرى بناء الخط بين سنتي 1920 و1939 في منطقة البرزخ الكاريلي، وهو خطّ متكوّن من مجموعة خنادق وتحصينات تقسم البلاد نصفين، ويهدف هذا الخطّ إلى لعب دور حصن دفاعي ضد هجمات السوفيت لينسحب إليه الفنلنديون خلال الحرب، ويتحصّنوا به، وقد لعب الخطّ دورًا مهمًا في الجهود الدفاعية للجيش الفنلندي، لكن أجزاءً كبيرةً منه وقعت في الأخير تحت سيطرة السوفيت بحُكم التفوّق العددي الاستثنائي.
خطّ مانرهايم باللون البنّي – المصدر: كتاب «خط مانرهايم 1920-1940»
ويمكن القول إن ميدان القتال، أي البيئة والطقس والغطاء الغابي كان «أهم جندي» في الجيش الفنلندي؛ إذ ساهم بصورة بالغة في إنجاح «تكتيتك موتّي» الشهير، ففنلندا لا تنعم سوى بخمس ساعات من ضوء الشمس يوميًا، ويسودها الظلام الدامس في باقي اليوم ممّا لعب في صف الفنلنديين، بالإضافة إلى الغابات الكثيفة والطرق الفرعية المتباعدة وسط الغابات، وهو ما أعاق تقدّم قوات الجيش الأحمر، وخفّض من سرعته بصورة فادحة، وقسّم القوات السوفيتية إلى مجموعات أصغر، ناهيك عن درجة الحرارة المتجمّدة التي تصل إلى أقل من 20 درجة تحت الصفر.
وبسبب تجمّد بحر البلطيق خلال الشتاء، أصبحت المعركة متمركزة في الجو واليابسة، وخرجت القوّات البحرية من الحرب، كما أن تساقط الثلوج صعّب كثيرًا مهمّة الطائرات المقاتلة التي لم تستطع الطيران بسبب الرؤية الرديئة، ناهيك عن الثلوج الكثيفة التي وصل طولها في أوجّ الشتاء إلى مستوى يمكنه دفن الجندي من أصابعه قدمه إلى رأسه، أعطى ميزة مهمة لصالح القوّات الفنلندية التي استخدمت مهارات الزلاّجات الجليدية بكفاءة عالية بحكم التدرّب والتعوّد، بينما لم يتدرّب جنود الجيش الأحمر على استخدام مهارات التزلّج، واستمروا في أساليب الحرب التقليدية.
قوّات فنلندية خلال «حرب الشتاء» سنة 1939
لكن مع وصول شهر فبراير (شباط) 1940 استطاع الجيش الأحمر إعادة رصّ صفوفه، والتأقلم مع الظروف المناخية، وترتيب خطّة للتقدّم، وهنا لعب الطقس – للمفارقة – دورًا لصالح السوفيت عكس ما كان عليه الحال في بداية الحرب؛ إذ تجمّد خليج فنلندا – الذي يفصل بين الأراضي الفنلندية، وأراضي الاتحاد السوفيتي القريبة من سانت بيترسبرج – بسبب برودة الشتاء القارس، وهو ما فتح على الفنلنديين جبهة قتالية جديدة لم تكن في الحسبان؛ إذ من النادر تاريخيًا أن يتجمّد هذا الخليج الضخم، ويتحوّل فجأة إلى أرض مسطّحة تسمح بعبور قوّات الجيش الأحمر من الأراضي السوفيتية إلى غاية خليج فيبورج.
استعان الفنلنديون ببعض المتطوّعين السويديين لمؤازرتهم خلال الحرب، لكن تعويلهم على السويد لم يتجسّد بسبب سياستها بالبقاء على الحياد، كما حصلوا على دفعات سلاح من طرف ألمانيا النازية بصفة سريّة، كون أن ألمانيا والاتحاد السوفيتي حينها كانا لا يزالان في حالة سلم؛ وقد وصل حجم القوّات الفلنلندية في أوجّها إلى 300 ألف عنصر، أي حوالي 10% من جميع سكّان فنلندا، مقابل مليون جندي سوفيتي.
انتهت الحرب في شهر مارس (آذار) 1940 باستسلام فنلندا وجلوسها على طاولة المفاوضات ورضوخها للشروط الاتحاد السوفيتي المنتصر في الحرب، لكن ذلك لم يتمّ سوى بعد أن كبّد الفنلنديون الجيشَ الأحمر خسائر شديدة الفداحة، فمن الجانب الفنلندي سقط في الحرب حوالي 26 ألف شخص، بينما سقط من الجانب السوفيتي 140 ألف قتيلًا، كما دمّر الفنلنديون 3500 دبابة وألف طائرة سوفيتية مقابل 62 في الجانب الفنلندي.
في موسكو وقّع الطرفان بعد الحرب اتفاقية سلام خسرت فنلندا بموجبها 10% من مساحتها لصالح الاتحاد السوفيتي، بالإضافة إلى السماح للسوفيت بإقامة قاعدة بحرية على أراضيها، كما أُجبر 400 ألف فنلندي على مغادرة الأراضي التي أصبحت تابعة للاتحاد السوفيتي؛ ورغم كل هذه الشروط القاسية التي فرضها الاتحاد السوفيتي باعتباره الطرف المنتصر في الحرب؛ إلا أنّ فنلندا من خلال نجاحها في إلحاق تكلفة مادية وبشرية ضخمة في صفوف الجيش الأحمر ورفع تكلفة الغزو، نجحت في الحفاظ على استقلالها الوطني ولم تقع فريسة احتلال وضمنت عدم إلحاقها بالاتحاد السوفيتي عكس جيرانها في بحر البلطيق (أستونيا، لاتفيا، ليتوانيا)؛ كما سجّلت في التاريخ بطولات «حرب الشتاء» التي استطاعت بموجبها دولة صغيرة لا يتجاوز عدد سكّانها 3 ملايين نسمة أن تقف في وجه أكبر جيوش العالم، والأكثر تسلّحًا.