شكل حادث أورلاندو في ولاية فلوريدا الأمريكية، الذي استهدف ملهى مثليين، وخلف منهم خمسين قتيلًا الشهر المنصرم، صدمةً لدى الأجهزة الأمنية الأمريكية، التي عادةً ما كانت تفتخر بقدرتها على صد كل محاولات اختراق التنظيمات المُسلحة المتشددة للتراب الأمريكي، الشيء الذي عجزت عن القيام به سلطات الأمن الأوروبية، لتتفاجأ بإمكانية وقوع هجمات مسلحة ينفذها أفراد داخل ترابها، دون أن يكون هناك تنسيق للعملية مع تنظيم جهادي ما.

فبعد أن أوضح مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) بأن «منفذ الهجوم، عمر متين، اعتنق التطرف عبر الإنترنت، ولا صلة مباشرة له بتنظيم إرهابي معين»، بدت بوادر موجة جديدة من الهجمات المسلحة تواجه العالم الغربي، بحيث تتخذ طابعًا فرديًّا، دون أن يكون لها علاقة بتنسيقٍ أو تخطيطٍ ما مع خلايا تابعة لتنظيم مُسلح ما، كما حدث في هجمات باريس، نوفمبر (تشرين الثاني) 2015، وهو الشكل الجهادي الذي بات يطلق عليه اسم «الذئاب المنفردة».

ثم توالت بعد ذلك الاعتداءات المسلحة المتوالية، التي يُرجح أنّها ذات دوافع دينية مُتشددة، في كلٍّ من فرنسا وألمانيا، حتى وصلت إلى أكثر من سبعة حوادث فيما لا يتعدى أسبوعين، أسفرت عن عشرات القتلى والجرحى، وكان الملاحظ أن جميعها نفذ من قبل أفراد، لا ينتمون تنظيميًّا إلى أيّ من المجموعات الجهادية المسلحة.

خصائص عمليات «الذئاب المنفردة»

تسمى أيضًا بـ«الجنود التائهين». يعود هذا الشكل من العمليات النوعية، إلى سبعينيات القرن الماضي، إلا أنه عرف تزايدًا ملفتًا بعد هجمات 11 سبتمبر، عندما اشتد الخناق على تنظيم القاعدة، ووجد نفسه محاصرًا من الرقابة الأمنية الأمريكية، فلجأ إلى شبكة الإنترنت كبديل للتجنيد فقط عبر الدعاية، دون ربط علاقات تنظيمية مع المجندين، ولم تظهر هجمات «الذئاب المنفردة» بشكل يلفت أنظار العالم إلا خلال الفترة الأخيرة، بدايةً من حادث برناندينو وأورولاندو إلى هجمات فرنسا وألمانيا الأخيرة.

تعتمد هذه الهجمات على إستراتيجية جديدة، بحيث تنفذ فرديًّا أو عن طريق خلايا صغيرة لا تتجاوز الثلاثة أشخاص كحدٍّ أقصى، وتتم عن طريق التطوع التلقائي، الذي عادةً ما ينتج عن الاقتناع، أو التأثر بأفكار تلك التنظيمات.

وفي دراسة أوروبية حول الظاهرة الجديدة، التي بدأت تؤرق أوروبا، رصدت خصائص نمط «الذئب المنفرد»، منفذ العملية، ووصفته بأنه شخص مدني لا ينتمي لبنية تنظيمية معينة، أو قيادة مركزية ما تنسق معه عمليته المسلحة، ويخطط لعمليته دون تدخل خارجي وبتمويل ذاتي، ويتواجد ببلدان تتيح شراء السلاح، ويرجح أن له ماضيًا جنائيًّا أو اضطرابًا نفسيًّا، كما يتعرض لحلقة ضغط مكثفة على مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الإنترنت تشحنه بالأفكار الجهادية، ثم يتبنى بشكل جامع المظلمة الشخصية والمظلمة الجماعية والمظلمة الدينية، ليباشر بعدها تنفيذ عمليته.

وتعرف الدراسة ظاهرة «الذئاب المنفردة» بأنها عملية شخصية يتبنى خلالها الفرد مُثلًا وتطلعات سياسية أو اجتماعية أو دينية متطرفة، ويسعى لتحقيق أهداف هذه التطلعات من خلال استخدام العنف العشوائي. وهي مسار نفسي إذا ما توافرت الظروف المناسبة له، يمكن أن يلتحق به أي فرد أو أمة.

وعلى الرغم من أن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، يسارع إلى تبني هجمات «الذئاب المنفردة» مباشرةً بعد كل عملية، كما حدث في هجوم أورلاندو وأحداث ألمانيا الأخيرة، إلا أن التحقيقيات الأمنية لم تجد دليلًا على أن منفذي هاته العمليات، لهم ارتباط تنظيمي بـ«الدولة الإسلامية» بقدر ما بدا لديهم تعاطف مع التنظيم ورؤيته الدينية.

مكمن الخطورة

تمثل هجمات الذئاب المنفردة تهديدًا حقيقيًّا على العالم الغربي، قد يتفوق وقعه على التنظيمات الجهادية التقليدية مثل القاعدة و«تنظيم الدولة»، كما يؤكد الخبراء الأوروبيون.

ولا غرابة في أن صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية وصفت الظاهرة بـ«الكابوس الجديد»، بينما قالت عنها صحيفة ديلي تلجراف البريطانية، بأنها تشكل التحدي الأكبر للأجهزة الأمنية في العالم، ولا سيما في الغرب.

 

تتجلى خطورة هجمات «الذئاب المنفردة» في التكتيك الفردي الذي تنهجه، بحيث يكون توقع زمن الهجمات أو التنبؤ بمكان حدوثها أو معرفة الساعي لتنفيذها أمرًا شبه مستحيل، ما يحرم السلطات الأمنية من أي طرف خيط يمكنها تتبعه.

وكان البيت الأبيض، قد أقر على لسان ناطقه الرسمي، جوش أرنست، بأنه «من الصعب جدًّا منع أعمال إرهابية لأشخاص يتحرّكون بمفردهم»، في حين صرحت الشرطة الأوروبية «اليوروبول» قائلة إن «الهجمات التي ينفذها من تطلق عليهم تسمية الذئاب المنفردة تشكل خطرًا كبيرًا في أوروبا، وتثبت الأحداث الأخيرة في فرنسا وألمانيا أنه من الصعب رصدها ووقفها».

ولا تكمن الصعوبة فقط في مراقبتهم، وإنما أيضًا في طريقة التعامل معهم، إذ لا توفر القوانين الأوروبية، إمكانية محاسبة مساءلة كل الأشخاص بدون سند قانوني، أو حتى محاسبتهم على النوايا أو التعبير طالما لم يتجسد على شكل أفعال.

مثلما توفر طريقة «التجنيد الذاتي» طريقة مثلى بالنسبة للتنظيمات الجهادية لاختراق البلدان التي لا تستطيع النفوذ إليها، وتنفيذ عملياتها، ومنه يتوقع أن يصبح تكتيك «الذئاب المنفردة» المشروع الجهادي القادم، في ظل زيادة الخناق من قبل الدول الكبرى، على «تنظيم الدولة».

كيف ينوي العالم محاربة «الذئاب المنفردة»؟

بعد أن أحست البلدان الغربية بخطورة هجمات «الذئاب المنفردة»، انصب الاهتمام العالمي نحو هذه الظاهرة، وتزايد التركيز الإعلامي والبحثي والأمني حولها، لإيجاد سبل كفيلة بمحاصرتها، حتى أن المرشحة الرئاسية الأمريكية، هيلاري كلينتون، قد قالت عقب عملية أورلاندو: «حين أصبح رئيسة سيكون كشف هويات الذئاب المنفردة واعتقالهم أولوية كبرى عندي».

بالنسبة لفرنسا ذهبت إلى إعادة هيكل المجال الإسلامي في البلد، إذ صرح رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، قبل يومين، قائلًا: «علينا العودة إلى بناء علاقة جديدة مع مسلمي فرنسا»، وأقر وقف التمويل الخارجي لبناء المساجد، وإعداد الأئمة في فرنسا، وليس في بلد آخر.

 

من جانبها، اتجهت ألمانيا إلى إعلان مراكز جديدة لمعالجة المتشددين ذوي الاضطرابات النفسية، بعد أن تبين أن عددًا من منفذي العمليات الأخيرة، كانوا يعانون من اضطرابات عقلية.

أما بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، فهي لا تعاني نسبيًّا من تهديد حقيقي من العمليات الجهادية بجميع أشكالها، حيث تعتمد على نظام أمني صارم، قائم على القدرات الاستخباراتية المعلوماتية، والتدخلات الاستباقية، يحول دون تمكن الجهاديين من مباشرة عملياتهم داخل التراب الأمريكي، إلا نادرًا، بيد أن المسؤولين الأمريكيين لا يخفون رغبتهم في توسيع مجال التجسس على المسلمين الأمريكيين.

ويحذر خبراء من أن تفشي هجمات «الذئاب المنفردة» في العالم الغربي، سيعيد تشكيل الدول على أساس أمني، واتباع سياسات تقلص خصوصية الأشخاص وحرياتهم، وتحجم الحقوق الفردية، وتوسع مساحات التجسس والاستخبارات، كضريبة لمزيد من الأمن.

المصادر

تحميل المزيد