يبدو أن حجم التحديات (والانتهاكات) التي صارت تتعرض لها المرأة في المجتمعات العربية في السنوات الأخيرة، من الآثار النفسية للحرب والدمار إلى الانتهاكات البدنية من سلطات الاحتلال وأنظمة القمع قد بلغت مبلغًا غير مسبوق، ما يجعل الجميع يتساءل هل بإمكان المرأة أن تفعل ما هو أكثر من الصمود، وأن تخوض تجارب مبادرة قادرة على إحداث تغيير حقيقي في واقع المجتمع، سؤال نجهد للبحث عنه بين سطور تجارب مبدعة في صفحات التاريخ، أهم ما يجمعها أن البطل(ة) فيها لم تكن امرأة بعينها، وإنما كانت (المرأة) بشكل عام، حين قررت أن تدير بنفسها عجلة التاريخ.
-
1- أمهات مايو في الأرجنتين: النساء في وجه الحكم العسكري
وصل الجنرال «خورخي بيديلا» إلى السلطة في الأرجنتين عام 1976 عبر انقلاب عسكري، أطاح خلاله برئيسة الجمهورية «ستيلا مارتينيث دي بيرون»، خلال الأيام الأولى لحكم الجنرال اغتيل مئات النقابيين والطلاب والمعارضين، وغيب آلاف المختطفين في السجون بدون تحقيقيات أو أي شكل من أشكال التقاضي.
قدرت أعداد المغيبين قسرًا خلال فترة الحكم العسكري في الأرجنتين (1976-1983) بحوالي 15 ألف شخص، وفقًا لإحصاءات أمانة حقوق الإنسان التي تم تشكيلها بعد الإطاحة بالحكم العسكري، بينما تقدرها منظمات مستقلة بأضعاف هذا الرقم (30 ألفًا)، ويعرف المغيبون قسريًا بأنهم أولئك الذين اختطفتهم السلطة ولم يستدل على مكانهم أو جثثهم، ولا يعرف على وجه التحديد هل كانوا أحياء أم أموات.
ربما يعود الفضل للنظام العسكري في الأرجنتين في تعريف ظاهرة التغييب القسري بهذا الوضوح، وبلغت نسبة النساء حوالي 30% من الأعداد الكلية للمغيبين، حيث كن يختطفن قسرًا (خصوصًا الشابات منهن) من المنازل والجامعات أو المظاهرات تحت دعوى ممارسة الإرهاب والتخريب، ويتم اغتصابهن بشكل ممنهج داخل مقار الاحتجاز (قدرت نسبة الحوامل بين المغيبات بسبب الاغتصاب بحوالي 3%)، بينما لم يتم حصر المزيد نظرًا لاختفائهم ثم دفنهم في أماكن سرية فيما بعد أو رميهم من الطائرات في المحيط.
التقارير تشير إلى أن الجنرالات كانوا يستخدمون المعتقلات كماكينات لإنجاب الأطفال، يبقى الطفل مع أمه لعدة أشهر بعد الولادة، بعدها يتم نقلهم إلى معسكرات ومراكز تربية كي يكبروا كضباط جدد، أو يتم تبنيهم من قبل الضباط المصابين بالعقم، مئات الأطفال تم إنجابهم بهذه الطريقة (بمباركة الكنيسة)، فقط 56 طفلًا منهم استعادتهم عائلاتهم بعد التخلص من الحكم العسكري، وحوالي 200 آخرين تنظر قضاياهم في المحاكم، والمئات لم يستدل عليهم بعد.
بعد انتهاء مهمة الإنجاب تأتي (رحلات الموت)، يتم التخلص من المعتقلات عبر حقنهن ليصبحن في غيبوبة ثم يحملن على طائرات ويؤمرن بالرقص والاحتفال عرايا بعد أن يوهمن أنهن في الطريق لإطلاق سراحهن، في النهاية يتم رمى المعتقلة من الطائرة في المحيط أو نهر بليت لكي يتم التخلص منهن نهائيًّا، فقط 4 من كل 10 معتقلات بقيت على قيد الحياة.

المسيرات الدائرية والمنديل الأبيض
كان الأمهات يعانين في رحلة البحث عن الأبناء والبنات المغيبين في معسكرات السلطة، تجمعت الأمهات واحدة فواحدة، قررن أن ينسقن الجهود بالتوجه نحو ساحة مايو المواجهة للقصر الرئاسي، في وقت كانت الأحكام العرفية تحظر فيه تجمع أكثر من 3 أشخاص بالغين في مكان واحد، مشت الأمهات في صمت اثنتين اثنتين في شكل دائرة حول النصب الهرمي في منتصف الميدان، في طقس عرف بـ «المظاهرات الدائرية» كانت تمارسه الأمهات بشكل دوري يوم الخميس من كل أسبوع.
زادت أعداد الأمهات يومًا بعد يوم، وصرن يضعن منديلًا أبيض على رؤوسهن للتمييز (صار رمزًا لقضية التغييب القسري فيما بعد)، قوبلت فاعليات الأمهات بالسخرية في البداية ثم القمع (تم اعتقال 12 من عضوات حركة الأمهات والناشطين المتعاطفين معها وتغييبهم قسريًا)، ازدادت أعداد المشاركين وانضم أقارب المغيبين إلى الفاعليات، وتوسعت القضية لتشمل المتضامنين بشكل عام.
استفادت الأمهات من تنظيم الأرجنتين لكأس العالم 1978 في نشر القضية، لفتت المسيرات الدائرية الأسبوعية انتباه صحفيي العالم الذين جاؤوا لتغطية المونديال، أجريت مقابلات صحفية مع الأمهات ونقلت صور مسيراتهن في تليفزيونات أوروبا، وبخاصة هولندا (رفض النجم الهولندي يوهان كرويف السفر للأرجنتين واعتبر إقامة كأس العالم هناك نوعًا من الدعم العالمي للجنرال الدموي)، حتى بلغ التفاعل إلى منظمة العفو الدولية، التي تبنت جولات عالمية بصحبة الأمهات للتعريف بقضيتهن حول العالم خصوصًا في أوروبا.
دخل الحكم العسكري في أزمة اقتصادية طاحنة عام 1980، تزامنت مع هزيمة الأرجنتين في «حرب الفوكلاند» أمام المملكة المتحدة، تعالت الأصوات المطالبة بالديمقراطية، شاركت أمهات مايو في مسيرات عرفت باسم مسيرات المقاومة، ونجحت في إجبار آخر مجلس عسكري برئاسة «رينالدو بيغنوني» على ترك السلطة وعقد انتخابات ديمقراطية، فاز بها «راؤول ألفونسين» رئيس الحزب الراديكالي.
استمر نضال منظمات الأمهات في البحث عن أبنائهن، تم توثيق 256 حالة للأطفال المنجبين قصرًا، تم إعادة العشرات منهم إلى أسرهم وما تزال القضايا قيد النظر في المحاكم، ترفض الأمهات اعتبار أبنائهن وبناتهن أمواتًا حتى لا يتم غلق القضايا، وتتمسك بأن المغيب يختلف عن الميت وأنه يظل حيًّا حتى تظهر جثته، بالنسبة للجنرال فيديلا، في عام 1985 حكم عليه بالسجن مدى الحياة، قبل أن يصدر الرئيس الأرجنتيني كارلوس منعم عفوًا عنه عام 1990، ولكن المحكمة العليا أبطلت حكم العفو ليستمر في السجن، قبل أن يقضي نحبه سجينًا في مايو 2013.
2- نساء الأنقاض في ألمانيا: المرأة تصحح آثار الحرب
خرجت ألمانيا من الحرب العالمية الثانية محطمة تمامًا، حوالي 5-8 ملايين قتيل باختلاف التقديرات، ومئات الآلاف من المعتقلين في صحراء سيبيريا، وأكثر من 3.5 مليون منزل مهدم، أي بما يعادل 400 مليون متر مكعب من الأنقاض.
الرجال بين قتلى وأسرى وشيوخ، النساء لم يكن في وضعية جيدة أيضًا، فالجيش الأحمر (السوفييت) كان يتبارى جنوده في اغتصاب النساء الألمانيات وإّذلالهن، انتشرت حالات الانتحار بين النساء بشكل كبير حتى قررن أن يأخذن المبادرة.
امرأة تدعى لويزا شرودر، تعرضت بدورها للاغتصاب على يد الجنود السوفييت، قررت أن تأخذ المبادرة، فأس أو جاروف لكل امرأة، لتبدأ النساء في إزالة آثار الأنقاض إلى خارج المدن، واستخلاص الحجارة الصالحة للبناء وتشغيل المصانع التي يمكن تشغيلها، استمرت مرحلة إعادة البناء لمدة 10 سنوات، وكانت بداية الطريق نحو ألمانيا التي نعرفها اليوم.
في العديد من المدن الكبرى في ألمانيا يتواجد هناك نصب تذكاري لشخصية امرأة الأنقاض، تخليدًا للدور الذي قامت به المرأة في بناء ألمانيا، وفقًا للإحصاءات فقد شاركت 60 ألف امرأة في برلين وحدها في مشروعات إزالة الأنقاض.
دراسات حديثة قللت كثيرًا من حجم الدور الحقيقي لنساء الأنقاض، وقالت معظم العمل قامت به شركات بناء وأن الأمر كان يستعصي على أن تقوم به بعض النساء الهاويات، ولا ضير إن ثبتت صحة هذه الروايات أو خطئها، فالعبرة ليست بكم طن من الأنقاض رفعتها النساء، بقدر ما هي في كيف أمكن للمرأة أن تنتزع أمة كاملة من حالة من اليأس والإحباط، لتدفعها مرة أخرى إلى موقعها في دورة التاريخ.
3- نساء نوفمبر في الجزائر: المرأة في وجه الاحتلال
يمكن أن نؤرخ بداية مشاركة المرأة بشكل منظم في النضال ضد الاحتلال الفرنسي في الجزائر مع عام 1945، مع تأسيس التنظيم النسائي الذي تم إشهاره رسميًّا عام 1947 تحت اسم جمعية النساء المسلمات الجزائريات، ومع اندلاع الثورة في نوفمبر عام 1954 اندمج التنظيم النسائي ضمن جبهة التحرير الوطني، تم حصر عدد 11 ألف امرأة على الأقل قمن بأدوار فاعلة ضمن جبهة التحرير الوطني، شاركت قرابة 70 -100 امرأة منهن في أعمال عسكرية بحتة أغلبها تم أثناء معركة تحرير الجزائر العاصمة عام 1957، وهي التي حظيت بمعظم الاهتمام.
من بين هؤلاء النساء اللاتي شاركن في العمل العسكري هي المناضلة الجزائرية جميلة بوحيرد، والتي تم القبض عليها وتعرضت للتعذيب من قبل قوات الاحتلال، وحظيت قضيتها بدعم دولي واسع، وكذلك الشهيدة خديجة بن قويد والشهيدة فضيلة سعدان، والشهيدة مليكة قايد التي كانت تقوم بصناعة القنابل وزراعتها، لدرجة جعلتها أحد المطلوبين بالاسم لدى الجيش الفرنسي.
شارك النساء بفاعلية كمقاتلات وجواسيس وفي جمع التبرعات وكذلك كممرضات، وأتيحت لهن الفرصة للقيام بمهام سرية لا يقوم بها الرجال، أفضل مثال موثق على ذلك هو معركة الجزائر العاصمة. ففي هذه المعركة، ظل نشطاء جبهة التحرير الوطني من الذكور، الذين اختفوا في أماكن تحت الأرض هربًا من الفرنسيين، بعيدين عن المجال العام لتجنب الاعتقال والاستجواب، في حين أن النساء اللاتي ساعدن هؤلاء الرجال على البقاء مختبئين كن قادرات على التحرك هنا وهناك بحرية وتهريب الأسلحة وغيرها من المواد الحساسة كنتيجة لقدرتهن على التلاعب بمظهرهن الشخصي.