في الأيام القليلة الماضية انشغل الرأي العام في مصر بتصريحات شيخ الأزهر، الدكتور أحمد الطيب، التي دعا فيها إلى ضرورة إحياء فتوى «حق الكد والسعاية»، وذلك بهدف حفظ حقوق المرأة العاملة التي بذلت مجهودًا في تنمية ثروة زوجها، خصوصًا وأن المرأة في العصر الحديث تخرج لسوق العمل وتشارك زوجها في تحمل أعباء الحياة المادية، فما هو «حق الكد والسعاية»؟ وما التاريخ الفقهي لهذه الفتوى؟ وهل هناك من يستخدمها بالفعل في العصر الحديث؟
«حق الكد والسعاية».. ثورة فقهية أطلقها الفاروق عمر
في كتابه «حق الكد والسعاية» قال الباحث المغربي والأستاذ بقسم القانون والمجتمع بكلية العلوم القانونية والاجتماعية بجامعة ابن زهر في المغرب، الدكتور كمال بلحركة: إن «كلمتي الكد والسعاية تبرزان كدح السعاة وشقاءهم في تحصيل الرزق وتنمية الإنتاج والتعبير عنه بالحق، كما أن فيهما دلالة لغوية واصطلاحية قوية معبرة وواصفة لما يبذله السعاة من كد في سبيل تنمية مال الأسرة أو تكوينه».
ووضع بلحركة تعريفًا لهذا الحق بكونه «حقًا للنساء والأبناء والأقارب السعاة في تنمية واستثمار أموال الأسرة تطوعًا دون نصيب أو أجرة معلومة، ويُقضى لهم به متى طالبوا به وأثبتوا سعيهم فيه، ويستحقونه بمقدار كدهم، وباعتبار سنوات عملهم فيه».
وأوضح الباحث أن «بعض آراء الفقهاء أشارت إلى أن هذا الحق هو مقابل العمل، سواء من أجل إيجاد رأس مال من الصفر، أو مقابل تنمية رأس مال قائم ومملوك للسعاة أنفسهم أو لغيرهم، وذلك بقصد تنميته والزيادة فيه والاستفادة منه».
Embed from Getty Images
المرأة العاملة في مصر
وتعود فتوى «حق الكد والسعاية» إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، حين اشتكت إليه حبيبة بنت زريق، التي كانت تعمل نسّاجة، تقوم بتخييط الملابس وتطريزها، مع زوجها عمرو بن الحارث، الذي كان يتاجر بما تصنعه، حتى تمكّن الزوجان من تكوين ثروة من عملهما المشترك في الخياطة والتجارة، لكن المشكلة ظهرت عندما توفي عمرو بن الحارث.
إذ استولى أهله على أمواله كلها بما فيها العقارات التي اشتراها الزوجان معًا، متجاهلين حق زوجته فيها، وهي التي كانت شريكته فعليًا في الثروة التي حققها، ولم ترض حبيبة بما رأته إجحافًا في حقها، وقررت ألا تسكت عن ضياع حقها، وبالطبع لم تجد غير أمير المؤمنين عمر بن الخطاب لتلجأ إليه ويرد لها حقها.
فبعد أن سمع ابن الخطاب القصة من الطرفين: حبيبة وأولياء زوجها، قضى بحكم كان يُعد ثورة فقهية في ذلك الوقت؛ إذ حكم بقسم المال إلى نصفين: الأول يُوهَب لحبيبة بنت زريق مباشرة باعتباره حقها لأنها شريكة زوجها في ثروته التي ساهمت في تكوينها بشكل مباشر.
أما النصف الثاني، فهو الذي يُقسّم على الورثة، وحبيبة من بينهم، إذ وفقًا للشرع يحق لحبيبة أن تأخذ ربع ما ترك زوجها؛ كونها ليس لديها أطفال منه، والباقي يوزع على أولياء وأقارب الزوج حسب ما ينص الشرع، ومن هنا، ظهرت لأول مرة فتوى «حق الكد والسعاية»، التي تحفظ أموال المرأة العاملة، التي أسهمت في تكوين ثروة زوجها.
المالكية التقطوا «حق الكد والسعاية» وضمنوها في فقههم
توارث فقهاء المالكية ذلك الاجتهاد، فأصبح للسعاية عندهم معنيان، معنى عام واسع وآخر ضيق، ويدخل في المعنى العام الواسع كلُ منْ قدِرَ على الاشتغال والتكسب من أفراد الأسرة، أي أن الأمر لا يتعلق بالزوجة فقط، بل بكل أفراد الأسرة، بينما يتعلق المعنى الضيق بتخصيص الفقيه فردًا بعينه وتطبيق الفتوى عليه مثل الزوجة أو الأخت أو الأخ، لكن مع الوقت أصبح المقصد وراء إطلاق تعبير «حق الكد والسعاية» مرتبطًا بالزوجة أكثر.
ويدور الاجتهاد عند المالكية حول ما إذا كان الاستفادة من «حق الكد والسعاية» ينطبق على المرأة في البادية والحضر على حد سواء، أم لا، إذ ذهب بعض فقهاء المالكية إلى حق المرأة البدوية في الحصول على «حق الكد والسعاية»، وهو ما ظهر في فتوى الفقيه ابن عرضون في المرأة التي تخدم زوجها بالبادية، بأن لها نصيبًا من الزرع الذي تشارك فيه العمل مع زوجها، أما الزوجة في الحضر، فعند المالكية ليس لها حق لأنها لا تساهم في تنمية ثروة زوجها، طبقًا لظروف ذلك الوقت التي لم تكن المرأة الحضرية تعمل فيه.
وبالنسبة لمسألة متى يُقضى للزوجة بـ«حق الكد والسعاية»؟ فهناك ثلاثة حالات طبقًا لفقهاء المالكية، يُقضى فيها للزوجة بحق الكد والسعاية: الأولى تتعلق بوفاة الزوج، والتي أفتى فيها الفقهاء باستحقاقها حق الكد والسعاية كما فعل عمر بن الخطاب.
والحالة الثانية تتعلق بالطلاق، وقد أفتى فقهاء المالكية بحق المرأة في الحصول على مقابل لها أيضًا، بينما الحالة الثالثة هي حالة بقاء الزوجة في عصمة الرجل، واختلف الفقهاء في المسألة بين حقها في الحصول على مقابل فوري عن العمل، وبين عدم استحقاقها لذلك.
حق الكد والسعاية.. من الفتوى إلى التشريع في المغرب
اكتسبت مسألة «حق الكد والسعاية» صفة متميزة في فقه النوازل في الغرب الإسلامي باعتبارها إحدى أهم القضايا المالية التي شغلت بال هؤلاء الفقهاء. ويقصد بفقه النوازل المسائل المستحدثة التي لم يكن لها مثيل سابق، وبالتالي تحتاج إلى اجتهاد من أجل إصدار الحكم الفقهي الذي يتناسب معها.
المرأة العاملة في المغرب
وجرى تطبيق تلك الفتوى تاريخيًا لدى القبائل المغربية التي تكون المرأة فيها نشيطة عاملة في مالها أو عاملة مع الرجل؛ إذ تقوم بأعمال الزراعة والحرث بل التجارة والاحتطاب وجمع الحشائش أيضًا، بالإضافة إلى قيامها بصناعة أنواع النسيج والغزل والأواني الطينية وغيرها؛ مما جعل الفقهاء يعطون أهمية خاصة لعمل المرأة.
ولكون المغرب تتبنى المذهب المالكي، فقد تحول «حق الكد والسعاية» من فتوى فقهية إلى جزءٍ أصيل من القوانين والتشريعات المغربية، ويُطبق هذا الحق في حالتي الطلاق أو وفاة الزوج، وبالتالي يضمن حق الزوجة العاملة، ويشمل أحيانًا الأعمال المنزلية.
وجاء في كتاب كمال بلحركة، أن للنساء والأطفال وغيرهم من الأقارب بالمغرب، حق في ثروة الزوج والأب والأخ باعتبارهم شركاء في تحقيق تلك الثروة، وتوزع حقوقهم باحتساب كدهم وسعايتهم وسنوات عملهم في تنمية المال، فضلًا عن حقهم الشرعي في الإرث.
وتنص المادة 49 من قانون الأسرة المغربية، على أن لكل من الزوجين ذمة مالية مستقلة عن ذمة الآخر، غير أنه يجوز لهما (في إطار تدبير الأموال التي تكتسب أثناء قيام الرابطة الزوجية) الاتفاق على استثمارها وتوزيعها، ويُضمّن هذا الاتفاق في وثيقة مستقلة عن عقد الزواج، ويقوم موظفو العدول المكلفون بالتوثيق القانوني للزواج بإشعار الطرفين عند زواجهما بهذه الأحكام، وإذا لم يكن هناك اتفاق فيرجع للقواعد العامة للإثبات، مع مراعاة عمل كل واحد من الزوجين، وما قدمه من مجهودات، وما تحمله من أعباء لتنمية أموال الأسرة.