لا يعطي البعض منا أهمية كبيرة لمساحة عمله المخصصة له، سواء في الشركة أو في المنزل، بل ربما يندهش بعض هؤلاء عندما يجدون زميلًا لهم يقوم بوضع بعض الأزهار على مكتبه، ويهتم بتنسيق الأدوات عليه، ووضع بعض الملصقات المبهجة.
ليس هذا فحسب، بل إن البعض لا يعطي الكثير من الاهتمام لمساحة عمله في الشركة، حتى لو كان مكتبًا متهالكًا في القبو وسط جدران باهتة. وربما يفاجأ البعض منا عند التقدم إلى وظيفة بأن مكان العمل يبدو أقرب إلى منطقة جلوس أصدقاء، وليس مكان عمل احترافي.
لكن ما لا يعرفه البعض هو أن راحتك النفسية في مكان عملك، وشكل منطقة العمل هذه بدءًا من المكتب الذي تجلس عليه، وحتى كامل منطقة العمل التي يجلس عليها باقي الموظفين، لها تأثير كبير على أدائك المهني والعملي والإبداعي.
الدماغ أكثر تعقيدًا من الحاسوب!
يقارن البعض عقل الإنسان بالكمبيوتر في كثير من المناسبات، واصفين إياه بأنه جهاز حاسوب قوي. لكن هذا ليس صحيحًا في المطلق؛ فالدماغ لا تشبه الحاسوب؛ لأنها أكثر تعقيدًا؛ وتنتبه لأمور لا يبالي بها الحاسوب مطلقًا. فأجهزة الكمبيوتر لا تبالي بمحيطها؛ إذ يعمل الكمبيوتر المحمول الذي تملكه بنفس الطريقة، وبنفس الأداء، سواء كنت في مكتب مضاء بمصباح فلوريسنت، أو في حديقة مورقة.
لكن العقل يختلف هنا؛ لأن العقل أكثر حساسية من الكمبيوتر للمحيط العام، ويمكنه التفاعل مع الإشارات الخارجية، ومع المشتتات، وبالتالي فإن مساحة عملك لها تأثير كبير على دماغك، وبالتالي على كفاءتك وأدائك.
ربما لاحظ الكثيرون منا هذا الأمر خلال جائحة كورونا عندما اضطر أغلب الناس إلى العمل والتعليم من المنزل وسط بيئات مختلفة تتراوح بين المكتب المريح في غرفة مبهجة وبين الجلوس على طاولة الطعام بجوار الأطفال الذين يلعبون أو يشاهدون التلفاز. هنا أصبح تأثير مساحة العمل على الإدراك موضع اهتمام من الناس الذين حاولوا إيجاد مساحة عمل ملائمة وسط هذه البيئة في المنزل غير الملائمة لذلك.
5 تغييرات مهمة لمساحة عملك من أجل أداء أفضل
الآن ومع عودة أغلب الناس إلى العمل من المكاتب، ربما تكون هناك فرصة لإعادة تصور شكل وطبيعة مساحات العمل في مكاتبنا، وإضافة بعض التغييرات على هذه المساحات لنتمكن من منح عملنا كفاءة أكبر. وهذه خمسة أمور مهمة عليك الانتباه لها:
1- الانتماء إلى المكان.. اختر مساحة عمل تُرحِب بك
أحد أهم الأمور المرتبطة بمساحة عملك هو ما يسميه علماء النفس «إشارات الانتماء». تقصد بها تلك الإشارات والأشياء الموجودة في البيئة حولنا، والتي تعطينا شعورًا بأننا مرحب بنا في هذا المكان أم لا. بكلمات أبسط، هل مكان العمل حولك يجعلك تشعر بالانتماء، والراحة النفسية، وأنك جزء من هذا المكان بالفعل أم لا.
أحد التجارب التي قام بها باحثون في جامعة ستانفورد تمثلت في إنشاء ما أطلقوا عليه اسم «فصل دراسي نمطي» و«فصل دراسي غير نمطي». الفصل الدراسي النمطي كان مليئًا بملصقات أفلام حرب النجوم، وتضمن وجود كتب خيال علمي وعلب المشروبات الغازية. بينما تضمن الفصل الدراسي غير النمطي وجود ملصقات عن الطبيعة، وروايات أدبية، وزجاجات مياه.
جاء الباحثون بعدد من الطلبة من الجامعة نفسها وأجلسوهم في كلا الفصلين. بعد بضع دقائق فقط في الفصل النمطي، أعرب الطلاب الجامعيون الذكور عن مستوى عالٍ من الاهتمام بمتابعة علوم الكمبيوتر، بينما كانت الطالبات أقل اهتمامًا بذلك. لكن اهتمام الطالبات زاد بشكل ملحوظ – وتجاوز في الواقع اهتمام الرجال – بعد قضاء بعض الوقت في الفصل الدراسي غير النمطي.
وجدت الأبحاث اللاحقة التي أجراها هؤلاء الباحثون أن الطالبات اللائي شاركن في فصول دراسية افتراضية (عن بعد عبر الإنترنت خلال فترة جائحة كورونا) غير نمطية، كان من المرجح أن يتوقعن أنهن سيحققن أداءً جيدًا في دروس علوم الكمبيوتر أكثر من أولئك اللائي حضرن فصولًا نمطية.
لذلك من المهم أن تختار مساحة عمل تشعرك بالانتماء، أو تحاول تغيير مساحة عملك الحالية بطريقة تشعرك بهذا الانتماء، بدءًا من نوع ولون الطلاء، مرورًا بأنواع الملصقات على الجدران، وطريقة ترتيب الأغراض على المكتب.
2- إشارات الهوية.. اختر مساحة عمل تشبهك
أمر آخر مهم لمساعدة الناس على التفكير بشكل فعال في مكان العمل، هو ما يطلق عليه اسم «إشارات الهوية». يقصد بها تلك العلامات والإشارات الملموسة التي نستقبلها من المحيط حولنا لدعم تصورنا الذاتي وتذكيرنا بأهدافنا وقيمنا الشخصية.
بكلمات أخرى أن نضع بعض الأشياء المادية في مساحة عملنا، والتي تعطينا نوعًا من الإعلان عن حماستنا، وهواياتنا، وإنجازاتنا، أو تعبر لنا عن نمط إبداعي نفضله، أو حس دعابة غريب، أو ببساطة تذكرنا بأحبائنا. لهذا السبب نلاحظ أن غالبية مديري الشركات يفضلون وضع صورة لأسرتهم أو أبنائهم على المكتب أمامهم في إطار جميل.
ربما تفهم الآن ذلك الشعور بالارتباك الذي يصيب كثيرًا من الناس عند السفر إلى دولة أجنبية. فالبيئة غير المألوفة الموجودة من حولهم لا تعطيهم إشارات الهوية تلك، فرغم استمتاعنا بهذه الأشياء الجديدة علينا إلا أننا نشعر ببعض الإرهاق والارتباك؛ لأن ما نراه لا يرتبط بهويتنا.
عليك هنا وضع بعض الأغراض التي تشير إلى هويتك، وتذكرك بما أنت عليه. من الممكن أن تكون جائزة ربحتها، أو صورة عائلية ما، أو حتى تذكارًا قديمًا له دلالة خاصة عندك، بل ربما حتى شعار فريقك الرياضي المفضل.
3- الشعور بالملكية.. على «ملعبك» الفوز مضمون
واحدة من تلك الأمور المهمة المتعلقة بمساحات العمل وقدرتك على الإبداع هي فكرة الشعور بالملكية. فعندما ندخل إلى مكان يبدو أنه ملكنا، تنشأ مجموعة من التغييرات النفسية وحتى الفسيولوجية داخل الإنسان. ربما الأمر تمكن ملاحظته إذا كنت سكنت من قبل في منزل ملك لك ومنزل آخر استأجرته لفترة، أو يظهر لك عند السفر واستئجار منزل لعدة أيام.
لوحظت هذه التأثيرات لأول مرة في دراسات تتعلق بالرياضة، وتحديدًا ما يطلق عليه ميزة اللعب على أرضك، ويقصد بها تلك الظاهرة التي يميل فيها الرياضيون إلى تحقيق انتصارات أكثر وأكبر عندما يلعبون في ملاعبهم ووسط جمهورهم. تشير الدراسات إلى أنه «على ملعبك» تلعب الفرق بشكل أكثر عدوانية، ويظهر الأفراد – سواء كانوا ذكورًا وإناثًا – مستويات أعلى من هرمون التستوستيرون، وهو هرمون مرتبط بالتعبير عن الهيمنة الاجتماعية.
ميزة اللعب على أرضك هذه لا تقتصر على الرياضة، فقد اكتشف الباحثون أنه عندما يشغل الناس مساحات يعتبرونها خاصة بهم فإنهم يشعرون بمزيد من الثقة والقدرة. كما أنهم يكونون أكثر كفاءة وإنتاجية، وأقل تشتتًا، ويعززون مصالحهم الخاصة بقوة وفعالية أكبر.
ربما علينا الإشارة هنا إلى إدارة الشركة نفسها التي تحتاج إلى تصميم المكان، ووضع القواعد التي تجعل الموظفين يشعرون بأنهم يمتلكون هذا المكان الذي يعملون فيه.
4- الشعور بالسيطرة.. من فضلك لا تلمس مكتبي!
يؤدي الشعور بالتحكم في شكل مساحة عملك، وما يرتبط بها من مهام إلى زيادة الأداء أيضًا. لنعطي مثالًا من إحدى الدراسات هنا، فقد ظهر أن الموظفين الذين يعملون في مكتب قاموا بترتيبه بأنفسهم بالطريقة التي يفضلونها كان أداؤهم أعلى بشكل ملحوظ من أولئك الذين قاموا بترتيب مكتبهم، ثم جاء أحد وعدل هذا الترتيب.
المجموعة الأخيرة من الموظفين في المكتب المعاد ترتيبه كانوا غير منتجين، وأعطوا العمل مجهودًا أقل، كما أبلغوا عن مشاعر سلبية مثل الغضب والتعاسة. إذًا عليك هنا أن تضع ما تشاء من أغراض، وترتبها بالكيفية التي تريدها مع التنبيه على عمال النظافة بعدم تغيير مكان أي شيء وضعته في مساحة عملك.
5- احذر المكتب المفتوح.. ابتعد عن الضوضاء قدر الإمكان
هناك تحد كبير في بيئة العمل التي تعتمد على فكرة المكتب المفتوح. يأتي التحدي كون هذا النوع من المكاتب يشكل أزمة للدماغ التي تضطر إلى مراقبة المحيط المباشر من حولها خشية أن تشير الأصوات أو الحركات القريبة إلى خطر ما يجب تجنبه (مثل وصول المدير). بعبارة أخرى يسهل تشتيت انتباهنا في هذا النوع من المكاتب؛ إذ يكاد يكون من المستحيل تجنب النظر ومتابعة أي شيء متحرك حولنا.
أضف إلى هذا الضوضاء؛ إذ تجذب أي أصوات انتباهنا، ويشتت أي كلام حولنا من انتباهنا؛ لأنه سواء أردنا أن نستمع أم لا، فإن أدمغتنا تحاول فهم معنى تلك الأصوات التي تسمعها.
عليك هنا البحث عن مساحة عمل مغلقة، فإن لم تجد، فعليك بأكثر المكاتب بعدًا عن المشتتات والضوضاء وحركة الموظفين. أضف إلى هذا ضرورة إزالة كل ما هو ليس ضروري من فوق المكتب.