الفصل الأخير من القصة يشرف على نهايته، والجولة الأخيرة من تصفيات كأس العالم 2017 على الأبواب، وإلى جانب جماهير الرياضة التي تتحرق شوقًا إلى وصول منتخبات بلادها إلى البطولة الأبرز عالميًا، فإن ثمة  شخصيات قد لا تعنيها الكرة كثيرًا، لكنها مع ذلك تراقب النتائج بشغف، عسى أن تهديها الأقدار فرصة لتسويق ذاتها من باب الرياضة. في السطور التالية سنحكي بعضًا من قصص الحكومات الشمولية مع كأس العالم، وكيف كانت تحرص على توظيفه سياسيًا لترسيخ وجودها وشرعيتها داخليًا وخارجيًا، بدءًا من أمريكا اللاتينية وحتى الحكومات العربية.

الفيفا يتواطأ مع ديكتاتور تشيلي لإخراج أغرب «مسرحية» كروية

يمكن اعتبارها المباراة الأكثر غرابة -وربما الأكثر عارًا- في تاريخ بطولات كأس العالم، في 11 نوفمبر (تشرين الثاني) 1983، وفي ملعب العاصمة التشيلية «سانتياجو»، حيث كان يُفترض أن يواجه المنتخب التشيلي نظيره السوفييتي، في دور إياب الملحق المؤهل لمونديال ألمانيا 1984، انتهت المباراة الأولى بالتعادل السلبي، وأمّل لاعبو تشيلي كثيرًا في لقاء الإياب لحسم البطاقة لصالحهم، وفي الحقيقة، كانت مهمتهم أسهل كثيرًا مما يمكن توقعه.

لم يكن قد مر على تشيلي حينئذٍ سوى أشهر قليلة من الإطاحة بالحكومة الاشتراكية بزعامة «سلفادور أليندي»، على يد الجنرال المدعوم أمريكيًا «أوغستو بينوشيه»، وفي الشهور الأولى من الانقلاب، كان بينوشيه يشق بحسم طريقه إلى حكم عسكري بزعامته، سيُحكم قبضته على البلاد لعقود، وكان عدة آلاف من المعارضين اليساريين حينها إما يقتلون على يد الجيش والأمن أو يسجّلون باعتبارهم مفقودين.

Embed from Getty Images
أوغستو بينوشيه

الملعب الوطني في سانتياجو كان شاهدًا على قسوة بينوشيه، فقد استخدِمَ من قبل قواته باعتباره مقرًا لاحتجاز آلاف المعارضين وتعذيبهم، ويقدر عدد هؤلاء بنحو 40 ألفًا، كان النظام العسكري الحاكم حريصًا كل الحرص على أن تلعب مباراة الإياب في ملعب العاصمة هذا لا سواه، في محاولة على  ما يبدو لـ«غسل» سمعة الحكم الجديد وتبييض وجهه، وفي مقابل الرفض القاطع من المنتخب السوفييتي، وبدلًا من اعتبار التشيليين فائزين فورًا، فقد أصر الفيفا على إقامة المباراة، بأي صورة كانت.

في مشهد سوريالي تمامًا، ينزل لاعبو المنتخب التشيلي إلى أرضية الملعب -الملبد بذكريات القمع والقسوة-  بلا منافسين، المدرجات الشاسعة لا تضم إلاّ  بضعة آلاف، قيل إن الكثيرين منهم قد جاؤوا لاقتفاء آثار أقربائهم المختطفين على يد النظام، تدوي صافرة الحكم، فينقّل اللاعبون الكرة فيما بينهم قبل أن يسدد قائدهم الكرة إلى المرمى الخالي، لينهى «المسرحية» التي تواطأ في إخراجها نظام بينوشيه والفيفا معًا، ويصبح التشيليون رسميًا في كأس العالم.

لاعبو الكرة لا يملكون وعيًا سياسيًا، لم نكن ندرك هذا الكم الهائل من القتلى والضحايا للدكتاتورية على مدار 17 عامًا، لم يكن يتخيل أحد ذلك، كنّا فقط نريد الذهاب إلى المونديال. لكن بمرور الوقت أدركنا مدى فداحة تلك الكارثة، وتمنّينا لو أننا لم نلعب تلك المباراة.. ليوناردو فيليز لاعب المنتخب التشيلي مستحضرًا ذكريات المباراة.

الأرجنتين.. حين تختلط صرخات الضحايا بهتافات المشجعين

كان الديكتاتور-الأرجنتيني-  السابق خورخي فيديلا يحتاج إلى الفوز بكأس العالم من أجل تحسين صورة الأرجنتين أمام العالم، وافق فيديلا على طلب بيرو باستقبال مجموعة تضم 13 من المعارضين البيروفيين، بينهم أنا، للتخلص منهم مقابل الفوز في اللقاء.. السيناتور البيروفي «جينارو ليديسما إزكييتا» أمام القضاء الأرجنتيني

كان هذا هو اعتراف المسؤول السابق في حكومة بيرو، بأن منتخب بلاده قد تعمد الخسارة أمام الأرجنتين، مستضيف البطولة، في نصف نهائي كأس العالم 1978، كان على الأرجنتينيين أن يفوزوا في المباراة بأربعة أهداف أو أكثر، ليضمنوا التأهل إلى الدور النهائي، وهو ما تم حيث فازوا بسداسية نظيفة، قبل أن يحسموا البطولة لصالحهم بالفوز على هولندا 3-1.

كانت الأرجنتين قد شهدت قبل ذلك بعامين انقلابًا عسكريًا دمويًا تعرض على إثره عشرات آلاف المواطنين للقتل أو الاختفاء القسري والتعذيب، الأمر الذي أدى إلى اندلاع حملة عالمية تطالب بسحب شرف تنظيم البطولة من الأرجنتين، بسبب تلك الانتهاكات، وتقدمت هولندا رسميًا بطلب لتنظيم البطولة عوضًا عنها، إلا أن الفيفا أصر على تنظيم الأرجنتين للبطولة، بعدما تلقى ضمانات بتأمين المباريات من النظام الحاكم، الذي اعتبر دعوات كهذه «مؤامرة لتشويه سمعة البلاد».

ظل فوز أصحاب الأرض بالبطولة في ذلك العام مثارًا للتشكيك، وقد فتح الفيفا مؤخرًا تحقيقًا حول الأمر، أحاديث عن مجاملات تحكيمية، وتدخلات تشيلية في مواعيد المباريات أو ترتيب حكّام من «الأصدقاء» لبعض المباريات، واتهامات للاعبي تشيلي بتعاطي المنشطات على علم من الفيفا الذي مررّ المسألة، وحتى غياب نجم هولندا «يوهان كرويف» عن مباريات فريقه الذي حل وصيفًا في البطولة قرئ في سياق ضغوط ما من النظام الأرجنتيني، قبل أن يخرج هو بعد عقود لينفي الأمر ويعلن أنه تعرض لـ«محاولة اختطاف» أثرت على تركيزه ومنعته من حضور البطولة.

يقول لاعب الأرجنتين السابق ريكاردو فيا: «لقد استغلونا للتستر على اختفاء 30 ألف شخص، أشعر بالخداع، وأتحمل المسؤولية على الصعيد الفردي، لقد كنا كتلة واحدة لا تفكر سوى في الكرة».

البرازيل.. مديسي يهنئ المنتخب ويسوّق لحكومته

لا أتدخل في اختيارات وزرائه، عليه ألا يتدخل في اختياري للاعبي فريقي.. مدرب المنتخب البرازيلي السابق «جواو سالدانها»، عن تدخل السلطة السياسية في عمله

يصف البعض فوز البرازيل بمونديال 1970 باعتباره أحد أكبر حملات الدعاية العامة  في التاريخ، لم يتعامل الدكتاتور البرازيلي «إيميليو مديسي» منذ مجيئه إلى الحكم عام 1969 مع كرة القدم إلا باعتبارها امتدادًا لطموحه السياسي، فدشّن خطة لتشييد عشرات الملاعب في البلاد، وكان يحضر المباريات الرياضية بصفة دورية، وكانت السلطة السياسية تتدخل في الاختيارات الفنية للاعبين، الأمر الذي أفضى بمدرب المنتخب «جواو سالدانها» إلى الطرد من منصبه بسبب خلاف حول التشكيل.

أشعر بالفخر إذ أرى البسمات تعلو وجوه الشعب، تلك هي الصورة الأسمى من صور الوطنية، لقد استطعت أن ألمس النجاح والذكاء والشجاعة في فريقنا الوطني .. مديسي في تهنئة للشعب البرازيلي بمناسبة الفوز بمونديال 1970

وقد استثمرت سلطة ميديسي في فوز منتخبها بكأس المونديال في ذلك العام أيما استثمار، هادفة بذلك إلى غسل سمعة النظام الديكتاتوري  المتردية داخليًا، وترميم شعبيته المتآكلة داخليًا وخارجيًا، أعلن ذلك اليوم عطلة وطنية، وتم اعتماد شعار الفريق «البرازيل، إلى الأمام»، في كل مكان، وربط الخطاب الرسمي بين الإنجاز الرياضي المتحقق، و«المعجزة الاقتصادية» التي اعتبرت الحكومة أن البلاد تمضي في طريقها، حتى إن الشعار المفضل للنظام «لا أحد سوف يعيق البرازيل الآن» قد طبع على صور الجوهرة السمراء «بيليه» التي انتشرت في كل مكان.

مصر.. حلم المونديال من جمال مبارك إلى السيسي

لاعبو المنتخب عندما ينظرون إلى السيسي سيكتسحون غانا بمباراة العودة.. اللاعب المصري السابق مجدي عبد الغني في تصريح سابق إبان تصفيات مونديال 2014

الحديث عن التوظيف السياسي للرياضة – ولمسألة كأس العالم خصوصًا – في مصر، يستدعي مباشرة جهود مصر في تنظيم مونديال 2010، وهي الجهود التي كان يُنظر إليها باعتبارها محاولة من نجل الرئيس السابق «جمال مبارك» لترسيخ وجوده السياسي من بوابة الرياضة، وقد كان الفشل الذريع الذي تكللت به الجهود المصرية لاستضافة البطولة فيما عُرف وقتها بـ«صفر المونديال»، مؤشرًا على حلقات أخرى من الفشل الذي مني به مشروع التوريث على أكثر من مستوى حتى انقضى تمامًا مع الثورة على حكم مبارك عام 2011.

ويبدو النظام المصري الحالي مستمرًا في الاستثمار السياسي في الحقل الرياضي، إذ استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في يناير الماضي لاعب المنتخب المصري «محمد صلاح» عقب تبرع الأخير بمبلغ 5 ملايين جنيه لصندوق تحيا مصر،  كما استغل النظام  المصري بعض الوجوه الرياضية للترويج لمشروعاته ومبادراته، مثل مبادرة تحيا مصر التي شارك حارس المنتخب المصري «عصام الحضري» في حملاتها الإعلانية.

https://www.youtube.com/watch?v=sMdbkcdhgkU

وعقب فوز المنتخب المصري على نظيره الغاني في بطولة الأمم الأفريقية، يناير الماضي، ظهر مقطع فيديو للسيسي مع مجموعة من الشباب في أحد فنادق أسوان، تظهر فيه سعادته بهدف المنتخب المصري في شباك خصمه، وربما سيكون تأهل المنتخب المصري لمونديال روسيا حال حدوثه هدية السماء لنظام السيسي، ليستغله في تحسين صورته على المستوى الشعبي والعالمي.

الأسد.. منتخب سوريا «يدافع عن الوطن»

الأسد كان حريصًا على إظهار كيف أنه يحظى بشعبية وسط الرياضيين والفنانين خصيصًا، لأنه يعلم أن هؤلاء هم الأكثر تاثيرًا في قلوب الناس.. أنس عمو، صحفي رياضي سوري

تحت عنوان «فريق الديكتاتور»، نشرت صحيفة  ESPN تقريرها حول المنتخب  السوري الذي صار قاب قوسين أو أدنى لتحقيق حلم التأهل إلى كأس العالم، بعد أن تمكن من الفوز على المنتخب القطري بثلاثة أهداف مقابل هدف، ثم يتعادل مع نظيره الإيراني بهدفين لكل فريق، لينتظر مباراته مع الفريق الأسترالي في الملحق الآسيوي المؤهل للمونديال.

الحقيقة التي تطرح نفسها، وبرغم كل محاولات إسباغ صفة الوطنية الجامعة على الفريق السوري، هو أن «المنتخب الوطني» محسوب بالنهاية على نظام دمشق، الذي قتل  بحسب الصحيفة ذاتها- نحو  38 رياضيًا قتلًا مباشرًا أو تحت التعذيب، وليس أدل على ذلك من أن بعض النجوم الرياضيين مثل «عمر السومة» و«فراس الخطيب» الذين افترقوا سابقًا عن صفوف المنتخب، بسبب اتخاذهم مواقف أقرب إلى الثورة، قد وجدوا بعد العودة إلى «حضن» منتخب الوطن أن عليهم تعديل موقفهم ليشيدوا بالأسد ونظامه.

وقد تقاطرت رسائل الدعم والتهنئة للمنتخب السوري من قبل أركان النظام، بدءًا من الابن حافظ، مرورًا بزوجة بشار التي نشرت عبر موقعها على إنستغرام صورة لطفلة ترتدي قميص الفريق السوري، ثم جاءت أكثر الرسائل صراحة من رئاسة الجمهورية السورية التي هنأت المنتخب بعد نتائجه، معتبرة أن تلك النتائج «نوع من أنواع الدفاع عن سورية في مواجهة ما تتعرض له».

كلنا معكم ❤️??❤️ #Syria #GoSyria

A post shared by The First Lady Asma al Assad (@asmaalassad) on

الجزائر.. كرة القدم تتحكم بمصائر الرؤساء

يمكن اعتبار الجزائر بلدًا ذا باع طويل في التوظيف السياسي لكرة القدم، فقد كان الرئيس السابق «أحمد بن بلة» لاعبًا ماهرًا، رفض عروضًا مغرية ليقرر العودة إلى البلاد ملتحقًا بصفوف الثورة، ليصبح بعد ذلك أول رئيس للجزائر بعد الاستقلال، وكما ضحّى بن بلة سابقًا بكرة القدم لأجل السياسة، فقد كانت كرة القدم دورًا في رسم نهاية مسيرته السياسية عام 1965.

حيث تم التخطيط للانقلاب عليه على يد الرئيس السابق «هواري بومدين» والرئيس الحالي «عبد العزيز بوتفليقة» فيما كان يتابع مجريات منتخب بلاده مع منتخب البرازيل الذي دعاه بن بلة إلى الجزائر، ليتم اعتقاله بعد نهاية المباراة ويتولى بعدها بومدين شؤون رئاسة الجمهورية.

ظل بومدين وفيًا للرياضة، التي جاءت به إلى الحكم  وقد سار بوتفليقة على المنوال ذاته، حيث عمل على توظيفها لتثبيت أركان حكمه وشعبيته، وقد لفت بوتفليقة الأنظار إلى اهتمامه بكرة القدم، حين صرح بأن بلاده قادرة -بفضل منشآتها الرياضية- على «استضافة كأسين للعالم وليس كأسًا واحدة».

نجحت الجزائر خلال فترة حكم بوتفليقة الممتدة منذ عام  1999 في انتزاع بطاقة التأهل إلى كأس العالم مرتين في عهده، 2010 و2014، وهو الأمر الذي استغله أنصار الرئيس في حملاته الانتخابية لاحقًا، باعتبار آثار ذلك «الإنجاز الرياضي» مردودة إلى السلطة السياسية بشكل أو بآخر.

وليس أدل على ذلك من عملية الإعداد لمباراة المنتخب الجزائري الحاسمة مع نظيره المصري في أم درمان السودانية عام 2009، حيث تم تخصيص نحو 30 رحلة جوية إلى السودان لنقل المشجعين، بإشراف شخصي من بوتفليقة، وتكفلت رئاسة الجمهورية بتذاكر الدخول إلى المباراة وبمصاريف الانتقال بين مطاري هواري بومدين والخرطوم.

وفي العام 2014، الذي تأهلت فيه الجزائر للدور الثاني من كأس العالم، ما عُدّ نتيجة طيبة للفريق الأخضر، ظهر بوتفليقة -وهو الذي كان يتعذر أحيانًا لقاؤه بالمسؤولين الأجانب أو مخاطبته الشعب بسبب تدهور حالته الصحية- وحرص على استقبال لاعبي المنتخب وتهنئتهم، كما ظهر مقطع مصور له وهو يطلب من رئيس الاتحاد الجزائري لكرة القدم محمد روراوة الإبقاء على المدرب وحيد حليلوزيتش ، فيما عُدّ تجاوبًا مع المطالبات الشعبية التي وصلت إلى توقيع عريضة مليونية تطالب بالإبقاء على حليلوزيتش على رأس الفريق الوطني.

المصادر

عرض التعليقات
تحميل المزيد