قبل ثلاث سنوات، دخل الشاب السوري «عمرو» – 29 عامًا – للعلاج في المستشفيات الإسرائيلية؛ فقد أصيب في معركة بمنطقة «جباتا» الواقعة في الريف الشمالي من القنيطرة، كانت محاولاته الأولى هي الدخول إلى الأردن من أجل العلاج، لكن رفضت الأردن إدخاله؛ فلجأ إلى إسرائيل عبر الجولان.
لم يكن عمرو الجريح الأول الذي عالجته إسرائيل، فبالرغم من عدم إقرار المعارضة السورية بذلك، إلا أنه فعليًا يعد الأمر واقعًا ملموس للسوريين، خاصة في منطقة القنيطرة، فهم يرون بأعينهم عمليات نقل الجرحى، ويعرفون بدقة أين تذهب سيارات الإسعاف، ومن هم الوسطاء الذي يسهلون دخول الجرحى. اليوم وبعد إغلاق الحدود الأردنية أمام هؤلاء الجرحى أصبحت إسرائيل طريقهم الوحيد للعلاج، ولم تعد صعوبة الدخول إلى الأردن متاحة بعد الحادث الإرهابي الذي وقع في يونيو (حزيران) الماضي؛ إذ مُنع الأمر بشكل تام؛ مما زاد من تدفق الجرحى السوريين إلى إسرائيل. وهو ما يعني أن التضييق من جانب الأردن، وعدم اهتمام الدول العربية بمصير ضحايا الحرب السورية، هو الدافع الرئيس لسلوك سبيل العلاج في إسرائيل.
عندما تحدثت «ساسة بوست» إلى عمرو، لم يتردد في القول بأن فرصة علاجه في إسرائيل أنقذته من احتمال شبه مؤكد لبتر قدمه في الأردن، ويخبرنا أيضًا أنه لم يتعرض لتحقيق من جانب الإسرائيليين، فقد أخبره الطبيب الإسرائيلي أن واجبه أن يعالجه بغض النظر عن مواقفه، يقول «بالطبع أردوا أن يظهروا أنفسهم إنسانيين، وقد وقع البعض في فخ ذلك، لذلك نجد بعض المطبعين معهم الآن في القنيطرة».
كيف يصل الجرحى السوريون للجانب الإسرائيلي؟
إلى الحدود الشمالية لسوريا مع إسرائيل، يصل الجرحى السوريون عبر مرتفعات الجولان إلى السياج الحدودي، غالبيتهم من مدينة القنيطرة القريبة من الجولان، ومن أصحاب الإصابات الخطيرة التي تعجز المستشفيات الميدانية عن مساعدتهم، وإضافة إلى المدنيين، هناك الكثير من الجرحى من عناصر الجيش السوري الحر و جبهة النصرة ذراع تنظيم «القاعدة» في سوريا.
في نقطة معنية حددها الإسرائيليون،وتبعًا لمبادرة القوة الناعمة تُسلم سيارة إسعاف سورية الجرحى لدورية من الجيش الإسرائيلي، يقدم لهم لإسعاف الأولي ميدانيًا، ثم يتم نقلهم إلى إحدى المستشفيات شمال إسرائيل، مثل مستشفيات «بوريا» وزيف» و«رمبام» و«نهاريا»، وقد يتم نقلهم إلى مستشفيات ومراكز طبية أخرى في الداخل لتلقي العلاج. وحسب معطيات وزارة الصحة الإسرائيلية فتكلفة العلاج الذي قدمته إسرائيل للجرحى السوريين تصل إلى 32 مليون شيكل، أي ما يعادل 9 مليون دولار.
خلال رحلة نقل الجرحى، قد يتعرض هؤلاء لهجمات دروز الجولان الموالين إلى النظام السوري، أبرز هذه الهجمات وقعت في يونيو (حزيران) 2015،عندما هاجم الدروز سيارة إسعاف عسكرية إسرائيلية، كانت تُقل مصابين من المعارضة، وقتلوا أحد الجرحى. اتهمت إسرائيل بشكل مباشر المخابرات السورية، بالوقوف وراء هذا التحريض، وأكدوا أن «الهدف من ذلك هو جر إسرائيل إلى الحرب الداخلية في سوريا، والقيام بالعمل الذي يعجز عنه نظام بشار الأسد لضرب (داعش) و(النصرة) وقوى المعارضة».
يقول الكاتب الإسرائيلي «يوسي ملمان» في مقال له بصحفية «معاريف» «على خلفية التقارير حول الخطر على دروز سورية، بدأ التضامن الدرزي وطبول الدمدم بالعمل ساعات إضافية. وقد استغل الأسد، وحزب الله هذا الوضع وبدأ في نشر معلومات كاذبة للتحريض في الشبكات الاجتماعية، ومكالمات هاتفية مباشرة وبث تلفزيوني، وكأن إسرائيل توجد في صف واحد مع جبهة النصرة وداعش ضد الدروز».
إغلاق الحدود من قبل الأردن.. الجرحى يموتون
في السنوات السابقة، كانت الأردن تُدخل الجرحى السوريين لتلقي العلاج في مستشفياتها، تحت قيود مشددة تخضع لها فرق إخلاء الجرحى؛ إذ يصل الجرحى محمولين من قبل أربعة مرافقين إلى نقطة طبية لحرس الحدود الأردني؛ بسبب منع دخول سيارات الإسعاف عبر الحدود، ويُحمل الجريح مسافة تزيد عن 200 متر، ثم يصعد به المرافقون على السواتر الترابية على طول الحدود، وعند الوصول إلى النقطة يتم تفتيشهم، ويجبر المرافقون على خلع ملابسهم، للتأكد من عدم حملهم للأسلحة أو الأحزمة الناسفة.
يقول أحد أعضاء مكتب الإخلاء في مدينة درعا، «أحمد أبو نبوت» «إن قوات حرس الحدود الأردنية، تزيد كل فترة القيود على فرق إخلاء الجرحى؛ حيث يُجبرونها أحيانًا على إخلاء الجرحى من نقاط بعيدة ذات طُرقات وعرة، وتبعد عن نقطة إدخال الجرحى الرئيسة، حوالي تسعة كيلومترات إلى الغرب من الحدود السورية الأردنية، وهو الأمر الذي يتسبب أحيانًا بتدهور الحالة الصحية للجريح».
انتهى ما سبق في 21 يونيو (حزيران) الماضي؛ إذ منع كليًا دخول الجرحى للعلاج، عندما أغلقت الحدود الشمالية للأردن مع سوريا في أعقاب الهجوم الإرهابي الذي قضى فيه سبعة جنود أردنيون نحبهم، فالآن غرفة الطوارئ في مستشفى «الرمثا» فارغة، والجراحين المتطوعين من جميع أنحاء العالم لا يفعلون شيئًا، حتى إنهم لم يتمكنوا من علاج طفل في العاشرة من العمر؛ لأنه مُنع دخوله وتوفي لاحقًا عند أحد نقاط التفتيش المزدحمة، في طريق عودته إلى الأراضي السورية.
هذه الأمر دفع مسؤولًا طبيًا في المعارضة السورية إلى الإقرار قبل أيام، بأن إغلاق السلطات الأردنية للحدود أمام دخول الجرحى، والذي تسبب في وفاة عدد منهم، دفع المعارضة لإرسال جرحاها إلى إسرائيل لتلقي العلاج، يقول مدير «مكتب الإخلاء الموحّد» السوري «جمال الصّياصنة» إن «خمسة جرحى مدنيين، توفوا خلال الأسبوعين الماضيين فقط؛ بسبب رفض حرس الحدود الأردني إدخالهم للمملكة؛ لتلقي العلاج فيها، وبعض المشافي الميدانية في مدينة درعا وريفها (جنوبي سوريا)، تضطر لإرسال بعض الجرحى الذين يُعانون من جروح خطيرة إلى إسرائيل؛ لتلقّي العلاج في مشافيها الحدودية، وعند الانتهاء من مرحلة العلاج يتم إعادتهم إلى سوريا».
ويوضح «الصياصنة» أن هناك وسطاء محليين ينقلون الجرحى إلى المشافي الإسرائيلية، عبر معبر مدينة القنيطرة المجاورة لدرعا، مشيرًا إلى أن الأمر يواجه صعوبات تتمثل في ساعات الانتظار الطويلة، حتى الاتصال بالوسيط الذي يقوم بدوره بالاتصال بالسلطات الإسرائيلية، ومن ثم الانتظار حتى صدور الموافقة.
تحدثت «ساسة بوست» إلى المحلل السياسي «موفق زريق»، فأكد أنه لا توجد أية مبررات على الإطلاق لمنع دخول الجرحى، سواء مبررات عسكرية أو سياسية من طرف الأردن، وتابع القول «هذا انحطاط أخلاقي وإنساني، إلا إذا كان الأردن يتعمد الضغط على الجرحى وإجبارهم على الذهاب لإسرائيل لتشويه صورة الثوار« . ويختم بالقول «وفق القانون الدولي، من واجب حتى العدو معالجة الأسير أو الجريح، وهذا لا يشين الثوار إطلاقًا».
لماذا يذهبون إلى العلاج في إسرائيل؟
توصلنا إلى أحد النشطاء الإعلاميين في القنيطرة يدعى «معاذ النعيمي»، حيث أردنا الوقوف معه حول الأسباب التي تدفع المعارضة لإرسال جرحاها إلى إسرائيل، يقول النعيمي «منذ أغلقت الأردن حدودها في وجه السوريين، وخصوصًا الجرحى، لجأ سكان الجنوب السوري إلى حدود الكيان الإسرائيلي المجاور لمحافظة القنيطرة لعلاج الجرحى».
ويوضح معاذ لـ«ساسة بوست» أن هناك ثلاث معابر في القنيطرة، الجنوب والوسط والشمال، وهناك أشخاص مخصصون لإدخال الجرحى بشكل منظم.لا ينكر معاذ أن المعاملة الحسنة للجرحى من قبل الإسرائيليين جعلت بعض الجرحى يتحدثون لأبناء منطقتهم عن إيجابية العلاج في الداخل الإسرائيلي، إذ «تصبح إسرائيل في نظرهم ملاكًا يعالج جرحاهم بطريقة صحيحة»، إنهم يمدحون طريقة العلاج التي أحالت دون جعل خيار بتر الأطراف، الخيار الأول، كما يحدث في المستشفيات الأردنية، حسب اعتقاد الجرحى؛ إذ يرون أن خيار البتر أول قرار يتخذه الأطباء عند رؤية المصاب في الأردن.
ويقارن معاذ أكثر فيقول «الجيش الإسرائيلي يؤمن للجريح الراحة الكاملة لكي يصل إلى المستشفى، ويقوم بأخذه إلى نقطة طبية لإجراء إسعافات عاجلة، ومن ثم إلى المستشفات المختصة، وبالنسبة للجيش الأردني فالجريح يتلقى إهانات وشتائم كثيرة لكي يصل إلى المستشفى»، ويختم معاذ بالقول «لذلك فضل سكان الجنوب علاج جرحاهم في إسرائيل بدلًا من الأردن».
يقول المحلل السياسي «أحمد هواس» «الإغلاق على الجيش الحر من الجنوب، ولا يوجد منفذ لهم، وهنا استغلت إسرائيل ذلك لصالحها بغية تحقيق عدة مكاسب، وأهمها أنها ليست جزءًا مما يحصل، وأنها على عداء مع إيران وحزب الله، وواقع الحال أن بقاء إسرائيل بات مرتبطًا بالحلف الطائفي«، وتابع القول لـ«ساسة بوست» «هناك تضخيم كبير لما يحصل بقصد تشويه الجيش الحر، وأنه يعمل تحت أجندة صهيونية لتدمير محور المقاومة، وهذه أكاذيب حيث تقف إسرائيل الداعم رقم واحد».
لماذا تعالج إسرائيل جرحى المعارضة السورية؟
«لأسباب إنسانية»، هذه الحُجة التي تكررت على لسان الإسرائيليين عند الحديث عن معالجة الجرحى السوريين، لا تقنع العديد ممن يتابعون سياسة إسرائيل تجاه الفلسطينيين، إذ يرى هؤلاء أن الأمر جاء لتحقيق مكاسب سياسية، يتربع على عرشها تحسين صورة إسرائيل، ودعم كل ما يضعف العدوان اللدودان النظام السوري و«حزب الله» اللبناني، أي من أجل أن «يختفي التهديد من دولة سوريا على إسرائيل، وهذا جزء من الأخبار الجيدة»، كما قال النائب السابق في مجلس الأمن القومي الإسرائيلي «ايتمار ياعر».
فلا يمكن تجاهل أن ما يقوم به الإسرائيليون من معالجة للجرحى السوريين، يأتي في ظل حرص المخابرات الإسرائيلية على متابعة ما يحدث في الأراضي السورية بدقة، وفي الواقع، يوفر علاج الجرحى معلومات قد تبدو عادية وطبيعية، لكنها في الحقيقة تخدم إسرائيل بشكل كبير. يقول الكاتب والمختص في الشأن الإسرائيلي أكرم عطا لله: «إسرائيل تريد أن تظهر من خلال ذلك، وكأنها دولة مختلفة عن واقع المنطقة كلها، خصوصًا وأن الجرحى عرب ويتقاتلون على السلطة، وإسرائيل وهي على حالة عداء مع كل العرب الذين يسبونها ليل نهار ويريدون تدميرها كما تقول، تبدو الآن وكأنها تتعاطف معهم بإنسانية مفرطة بمعزل عن عدائهم معها، وتظهر كدولة متحضرة في مقابل حالة التوحش العربية ضدها».
لذلك لا تتوانى إسرائيل عن التراجع عما تسميه بـ«العمل الإنساني» إذا ما شعرت أن علاج هذا الجريح قد يضر بمصالحها، وهو ما حدث عندما تراجعت عن استقبال جرحى عناصر جبهة النصرة، بل قالت إن ما تم في السابق من علاج لبعض الحالات هو «اختراق» لبرنامج المساعدة الطبية الإنسانية لإسرائيل.
علامات
editorial, إسرائيل, الأردن, الجرحى السوريون, الحدود, الدول العربية, المعارضة السورية, الوضع الطبي, جرحى, جرحى المعارضة السورية, سوريا, سوريين, عربي, علاج, قتال, مستشفيات إسرائيل