«تتسع الحياة أو تضيق وفقًا لشجاعة المرء» *أناييس نن.

في منتصف محاولة يائسة للهرب، بعد اعتقال «الجستابو (البوليس السري الألماني)» لها بسبب أنشطتها التجسسية لصالح الحلفاء، كانت نور في طريقها للتحرر من حبسها، في ظلمة ليلة حالكة لا تنيرها سوى نجوم السماء. بدأت بالجري برفقة سجناء آخرين من زملائها المعتقلين، وفي تلك الأثناء مر أمامها شريط حياتها، وأخذت الأحداث التي أودت بها إلى ذلك تتجسد أمامها في تتابع متسارع يضاهي سرعة أنفاسها المتلاحقة التي تحاول التقاطها. 

إنها نور خان، أول مشغلة راديو أرسلتها منظمة العمليات الخاصة البريطانية إلى فرنسا التي احتلها النازيون. فما هي قصتها؟ وكيف ساهمت نشاطاتها في إنهاء الحرب بإعلان الفوز للحلفاء، وكيف كان مصيرها؟

نور خان من موسكو إلى باريس

في شتاء موسكو القارس كانت البداية، حيث تفتحت أعين بطلة القصة على الحياة في يناير (كانون الثاني) عام 1914، لأب هندي مسلم، وأم أمريكية، وإن كانت المصادر لا تؤكد إن كانت قد ظلت بعد ذلك على اعتناق الإسلام أم لا.

ولدت نور عنايات خان وترعرعت في منزل مفعم بالسلام والسكينة. كان والدها صوفيًا يهوى الموسيقى، وتعلمت منه العزف على عدة آلات موسيقية. وكان جدها الأكبر السلطان تيبو، حاكم ميسور المسلم في القرن الثامن عشر، الذي رفض الخضوع للحكم البريطاني، وقاد معارك ضد الاحتلال، وقُتل في إحداها.

ونتيجة لذلك تربت نور خان على مبادئ التسامح ونبذ العنف والاحتلال بكافة أشكاله، وكانت من دعاة استقلال الهند عن بريطانيا. وبعد اندلاع الثورة الشعبية في روسيا انتقلت العائلة للعيش في بريطانيا، ومنها إلى فرنسا عام 1920. وهناك أنهت نور دراستها في علم نفس الأطفال بجامعة السوربون، ونشرت عدة كتب للأطفال، منها المجموعة القصصية «حكايات جاتاكا». كذلك كان لديها عمود في صحيفة «لو فيجارو» الفرنسية، نشرت فيه قصصًا عن حياة الأطفال الهنود.

ولكن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية تغير كل شيء في حياتها، وانقلبت تلك الحياة الهادئة والمسالمة رأسًا على عقب. وفي مايو (أيار) عام 1940، وبينما يستعد الجيش النازي لاحتلال باريس، واجهت نور خان خيارًا صعبًا؛ فهي من أكبر المؤمنين بضرورة تسوية جميع النزاعات دون عنف. ولكن مع انتشار الدمار والخراب في شتى بقاع أوروبا قررت عدم الوقوف متفرجة، وتحقيق السلام على طريقتها الخاصة. 

من كاتبة قصص أطفال إلى جاسوسة متمرسة

بعد استسلام الحكومة الفرنسية لألمانيا النازية هربت نور خان برفقة أسرتها إلى بريطانيا بواسطة قارب، وهناك تطوعت في قوات احتياط الجو النسائية، وتدربت للعمل مشغلة راديو، وانخرطت في العمليات اللاسلكية، وشفرة مورس. وفي تلك الأثناء لم تكن تعلم نور بوجود منظمة سرية تراقبها.

وضعت إدارة العمليات الخاصة البريطانية أنظارها على المتدربة الجديدة، ولكونها مشغلة راديو متمرسة تعرف باريس جيدًا، وتجيد الفرنسية بطلاقة، أثبتت نور خان جدارتها للانضمام إلى المنظمة التي أسسها ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني حينها خصيصًا لتدمير النازية في الدول التي تقع تحت الاحتلال الألماني. وبالفعل جرى تجنيدها في أواخر عام 1942.

تاريخ وفلسفة

منذ 4 سنوات
من قصص الجاسوسية.. كيف دربت بريطانيا عملاءها خلال الحرب العالمية الثانية؟

وفي صيف العام التالي، تحديدًا في يونيو (حزيران) عام 1943، كانت على موعد مع مهمتها الأولى. طُلب منها السفر إلى فرنسا للعمل مشغلة الراديو لشبكة المقاومة «بروسبر» في باريس. ومع أن بعض الذين درّبوها لم يكونوا متأكدين من مدى ملاءمتها لها، وتحذيرها من أن تلك العملية اللاسلكية تُعد من أخطر العمليات على الإطلاق في مجال الاستخبارات. مع الأخذ في الاعتبار عدم قدرة المنظمة على حمايتها إذا قُبض عليها، إلا أن نور خان قبلت المهمة على الفور.

مهمة في فرنسا المحتلة

هبطت نور في مدينة أنجيه جنوب غرب باريس، ومضت في طريقها متخفية بجواز سفر مزيف، يحمل الاسم الرمزي مادلين، ومُسلحة بمسدس، وبحوزتها بعض الفرنكات الفرنسية. كان عليها بالتعاون مع عدد من زملائها المشغلين جلب، وتثبيت جهاز إرسال في أراضي العدو. ومن أجل ذلك تعلمت فن الجاسوسية، وكيفية التواصل مع شبكات الاستخبارات، وصياغة الشفرات، والصمود في الاستجوابات، وإطلاق الرصاص.

وبينما هي تباشر عملها في الأراضي الفرنسية، وصلها خبر اختراق جاسوس نازي لشبكة العملاء السريين التي تعمل ضمنهم، وخلال أسبوع من وجودها هناك، ألقى الجستابو القبض على كل زملائها من العملاء، واستدعيت نور خان للعودة إلى بريطانيا بعد أن أصبحت حياتها مهددة بالخطر.

وبدلًا عن النجاة بحياتها والهرب، أقنعت نور رؤسائها بأن تظل هناك، وأخذت على عاتقها القيام بأعمال شبكة العملاء وإدارتها في جميع أنحاء باريس، وفي الشهور اللاحقة، استطاعت نقل معلومات للمقاومة الفرنسية، وإرسال تقارير إلى لندن عن الأنشطة النازية، وجهزت ممرًا آمنًا لجنود الحلفاء، وكان عملها ذلك أساسيًا لبناء المقاومة الفرنسية وشبكة استخبارات الحلفاء، وفي المحصلة إنهاء الحرب بهزيمة النازية، وإحراز النصر للحلفاء.

استطاعت نور بسرعة بديهتها وجاذبيتها، أن تنجح في تجاوز المواقف الصعبة. على سبيل المثال، حين كان الجستابو يبحث عنها في القطار، صرفته عنها باستعراض جهاز مشغل الأفلام، وعندما رآها جندي حينما كانت تُثبت هوائي الإرسال، راوغته بالحديث عن شغفها لسماع الموسيقى على الراديو، وأغوته ليساعدها في تنصيب الأسلاك، وفي أثناء عملها غيرت اسمها ومظهرها مرات عديدة.

الغيرة القاتلة

طيلة الشهور الأربعة التي مكثتها نور في باريس، لم يخذلها ذكاؤها الحاد، وخفة حركتها. لكن جاذبيتها أشعلت غيرة قاتلة. في أكتوبر (تشرين الأول) 1943 وقعت سيدة فرنسية في حب عميل كان يحب نور. ومن أجل أن تستأثر به لنفسها، وتزيح نور من طريقها؛ باعت السيدة عنوان نور إلى الجستابو الذي اعتقلها على الفور.

ولسوء حظها كانت نور قد احتفظت بنسخ من جميع إشاراتها السرية؛ الأمر الذي مكن الألمان من استخدام الراديو الخاص بها لخداع لندن لإرسال عملاء جدد، الذين وقعوا فورًا في أيدي أعضاء الجستابو إذ كانوا في انتظارهم، وخلال التحقيق معها رفضت نور الإدلاء بأية معلومات، وانصب تركيزها على محاولة الهرب. وبالفعل سرقت مفك براغي من أحد الحراس، واستطاعت فتح كوة في السقف والتسلل في جوف الليل. 

وبينما هي تركض هاربة مع بعض زملائها كُشف أمرهم وصدرت صفارة الإنذار، ليُعاد القبض عليها بعد ساعات قليلة، وتُرسل إلى سجن «بفورتسهايم» في نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1943، حيث مكثت في الحبس الانفرادي، وبالرغم من التعذيب المتكرر رفضت الكشف عن أية معلومات.

وفي سبتمبر (أيلول) من العام التالي نُقلت نور مع ثلاثة من زملائها إلى معسكر اعتقال «داخاو»، حيث جرى تنفيذ حكم الإعدام فيهم بإطلاق النار عليهم، وقبل إعدامها، يشاع أنها صاحت قائلة: «حرية».

دولي

منذ 3 سنوات
مُخبرو أمريكا من المحيط إلى الخليج.. ماذا تعرف عن جواسيس واشنطن؟

ونتيجة تضحيتها البطولية بالنسبة للحلفاء، كُرمت نور كبطلة خاضت معارك سرية خلف خطوط العدو، ومنحتها المملكة المتحدة وسام «صليب جورج»، الذي يُمنح لمن قام بأعمال بطولية نادرة، وأقامت لها تمثالًا في ساحة «جوردون» الشهيرة بوسط العاصمة البريطانية لندن، والذي أزيح عنه الستار بحضور الأمير فيليب زوج الملكة إليزابيث، وابنتهما الأميرة آن. كذلك منحتها فرنسا وسام «صليب الحرب»، وأقامت لها نصبين تذكاريين إلى جانب إحياء ذكرى وفاتها سنويًا.

المصادر

تحميل المزيد