«إعجاب غير مشروط»، جملةٌ قصيرةٌ وصفت بها صحيفة لوموند الفرنسية العلاقة الخاصة التي تجمع بين وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، وولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد آل نهيان، وعلى الجانب الآخر، يُكِنُّ ابن زايد، الذي يشغل أيضًا منصب نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، مشاعر خاصة تجاه الوزير الفرنسي، ويعتبره «محاوره الغربي المفضل».
هذان الوصفان، على إيجازهما، يتجاوزان بكثير في مدلولهما ما ذهب إليه آخرون اكتفوا بالقول: إن لودريان والشيخ «يعرفان بعضهما البعض جيدًا»؛ فالعلاقة بين الرجلين إنما هي امتدادٌ لشراكةٍ طويلة الأمد، أقرَّ الجانبان الشهر الماضي خطة طريقٍ ترسم ملامحها على مدى العقد القادم (2020-2030).
من الدفاع إلى الخارجية.. حليف الإمارات في الحكومات الفرنسية المتعاقبة
يتمتع لودريان بشعبية كبيرة لدى اليمين الفرنسي، حتى أن الأغلبية رشحته لتولي رئاسة الحكومة الجديدة، خلفًا لإدوارد فيليب قبل اختيار جان كاستكس، ولا غروَ أن تختاره الإمارات ليكون حليفها الذي تعتمد عليه طيلة فترة تواجده في الحكومات الفرنسية المتعاقبة، من وزارة الدفاع إلى حقيبة الخارجية، (مايو 2012 وحتى اليوم). في المقابل، يوصف محمد بن زايد باعتباره «أقوى حاكم عربي»؛ لكونه يسيطر على أكبر صناديق الثروة السيادية في العالم العربي وأكثر جيوش المنطقة فاعلية (الأموال لها مفعول السحر).
هذا ما يقوله مراسل صحيفة نيويورك تايمز للشؤون الدولية، ديفيد كيركباتريك، وكلامه لا ينطوي على مبالغة حين نقارنه بوصف الصحفي الأمريكي روبرت وورث لابن زايد بأنه «أحد أقوى الرجال على ظهر الأرض»؛ وهي مؤهلات تجعله حليفًا مغريًا لشخصٍ يتحين اقتناص الفرص مثل لودريان.
زيارات دورية وتواصل منتظم.. لودريان الذي يُقدّر صداقة الإمارات جيدًا
بتتبع زيارات لودريان الخارجية؛ يتضح أنه يُقدّر هذه الصداقة جيدًا؛ إذ قام بما لا يقل عن 10 زيارات للإمارات حين كان وزيرًا للدفاع، وبعد توليه حقيبة الخارجية، ظل حريصًا على زيارة الإمارات كل عام.
وآخر زيارة قام بها في أكتوبر (تشرين الأول) 2019، قبل شهر واحد من زيارة قام بها ولي عهد أبو ظبي إلى باريس، وقبلها زيارة أخرى قام بها لودريان أواخر عام 2018؛ وسبقتهما زيارة في يوليو 2017، وفي كل مرة كان يحرص على لقاء محمد بن زايد شخصيًا.
وإلى جانب ذلك يجري لودريان اتصالات هاتفية منتظمة مع وزير الخارجية والتعاون الدولي الإماراتي عبد الله بن زايد آل نهيان، وكان آخرها اتصال بينهما يوم الثالث من يوليو الجاري، ركزا فيه على الوضع في سوريا وليبيا، وقبله كان اتصال آخر يوم 20 أبريل (نيسان)، وسبقهما لقاء شخصي في فرنسا يوم 23 يناير الماضي.
ماكرون على خريطة العلاقات الإماراتية – الفرنسية
إذا كان هذا هو حال العلاقة مع وزير الخارجية الفرنسي، فكيف هي شكل العلاقة بين ولي عهد أبو ظبي والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون؟ ماكرون البراجماتيّ – الذي يتمسَّك بالمخضرم لودريان منذ دخوله إلى قصر الإليزيه، مهما أجبرته الظروف على إجراء تغييرات وزارية في الحكومة – اختار الإمارات لتكون وجهة زيارته الأولى إلى الخليج في نوفمبر 2017 بعد تنصيبه رئيسًا.
في تلك الزيارة، أشاد ماكرون بالإمارات ووصفها بأنها «من أكبر حلفاء فرنسا في المنطقة»، وقبلها زار ولي عهد أبو ظبي باريس في يونيو (حزيران) من العام ذاته – بعد شهر ونصف من أداء ماكرون اليمين الرئاسي – وبعدها كرر الزيارة في نوفمبر من العام التالي.
وإذا كان محمد بن زايد يعد ضلعًا رئيسيًا فيما يسمى بـ«محور الاعتدال» الذي تقوده السعودية والإمارات، لترسيخ الوضع الراهن وكبح جماح الثورات، ومحاربة الإسلام السياسي، فهذا عين ما يريده الرئيس الفرنسي أيضًا.
ومثلما شدد لودريان خلال حوار أجراه في فبراير الماضي على أن «هدف فرنسا الرئيس في المنطقة هو مكافحة الإرهاب» – وعينه هذه المرة على ليبيا – كان ماكرون صريحًا في مهاجمة الإسلام السياسي العام الماضي، قائلًا: «لا ينبغي علينا أن نحجب أعيننا عن الحقائق: نحن نتحدث عن أناس أرادوا باسم الدين مواصلة مشروع سياسي يريد أن يحدث انقسامًا داخل جمهوريتنا».
وقد علم ماكرون مبكرًا أن «الإمارات أكثر من مجرد صديق لفرنسا»، ولم يكن بحاجة إلى أكثر من نظرة إلى أرقام وزارة الخزانة الفرنسية ليدرك أن هذه الدولة الخليجية وحدها ضخت في شرايين اقتصاد بلاده 5.17 مليار دولار مقابل صادرات فرنسية، خلال العام الذي انتُخِبَ فيه رئيسًا، لتصبح بذلك ثاني أكبر شريك تجاري لفرنسا في الخليج.
يصف حرب السعودية والإمارات في اليمن بـ«القذرة».. كيف يكونون أصدقاء؟
لودريان المولود 30 يونيو 1947، والدارس للتاريخ، إذ يحمل دبلومًا تأهيليًا لتدريسه، خير من يعلم أن «المصالح المشتركة» لها مفعول السحر؛ إذ بإمكانها أن تُقرِّب الأباعد وتُسَهِّل الصعاب.
والحديث عن «الإعجاب المتبادل» بين الرجلين لا يعني أن هذا التقارب الحميميّ يقتصر على المستوى الشخصيّ، بل يمتد إلى العلاقات الرسمية بين الدولتين على عدة أصعدة، تحت مظلة «هدف مشترك» يتمثل في «التخفيف من حدة التوترات» في المنطقة، حسبما يؤكد الموقع الرسمي لوزارة الخارجية الفرنسية.
وجملة «هدف مشترك» على إيجازها – هي الأخرى – تنطوي على عدد من الملفات الملتهبة؛ أبرزها ليبيا وسوريا، مرورًا بمعاداة الإسلام السياسي، ووصولًا إلى دعم القادة العسكريين في المنطقة، وتحديدًا الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي (الذي تصفه لوموند بأنه «حفَّار القبور» لـثورة 2011) وحفتر في ليبيا (الذي تصفه مجلة أفريكان ريبورت بأنه «صديق الإليزيه المثير للجدل».
والودُّ بين الأصدقاء – أو بالأحرى تشابك المصالح المشتركة – حين يصل لهذه الدرجة، فإنه لا يفسد ولو اختلفت الرؤى في بعض القضايا، وحتى إذا أصرّ لودريان نفسه – تحت ضغوطٍ حقوقية – على مطالبة السعودية والإمارات مرة تلو الأخرى بإنهاء الصراع، الذي يصفه بأنه «حرب قذرة»، في اليمن.
بلون الدماء ورائحة البارود.. أبرز تجليات التقارب بين الإمارات وفرنسا
أشرنا آنفًا إلى تطابق أهداف ما أطلق على نفسه «محور الاعتدال» العربي – وفي القلب منه الإمارات – مع توجهات الرئيس ماكرون، خاصة فيما يتعلق بمحاربة ما يسمونه «الإرهاب» ومعاداة «الإسلام السياسي»، وهذا التطابق في الرؤى بين الدولتين يتجسَّد جليًا في السياسة الخارجية في ليبيا، وهي السياسة التي وصفها خبير النزاعات الليبي عماد الدين بادي في مقالٍ نشرته مجلة فوريس بوليسي يوم 21 أبريل (نيسان) الماضي، بأنها «تساعد على سفك الدماء».
والتدخل العسكري الإماراتي ليس وحده هو الذي يمنح حفتر النفوذ الذي يتمتع به في مواجهة الحكومة الليبية المعترف بها دوليًا، بل يلفت الباحث الليبي إلى أن الجنرال يستمد قوته أيضًا من النفوذ الدبلوماسي الذي تتمتع به الدولة الخليجية، وتؤثر به على الظروف المحيطة بليبيا، من خلال توظيف علاقاتها الثنائية، وخاصة ارتباطاتها مع فرنسا.
وهل يوجد أفضل من لودريان لرعاية هذا التوافق؟ الإجابة أعلنها بلسانه حين حدد أولوية بلاده هناك بـ«محاربة الإرهاب»، رافعًا الشعار نفسه الذي ترفعه الإمارات وحليفها المصري في الدولة المنكوبة بالتدخل الخارجي منذ مطلع العقد.
في الواقع، تستغل الإمارات وفرنسا عجز الدول الأوروبية عن إحداث تأثير جماعي في ظل غياب الولايات المتحدة، ولا أدل على ذلك من أن فرنسا هي الحليف الأوروبي الرئيسي التي تغرِّد خارج سرب الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو بدعمها المستقل لرؤية أبو ظبي في ليبيا، يحدوها إلى ذلك العلاقات الأمنية الوثيقة التي تسبق احتدام النزاع الليبي – على حد قول عماد الدين بادي – والمصالح المشتركة التي تزداد إلحاحًا الآن.
هذا التوافق في الرؤى لا ينحصر في ليبيا، ففي سوريا أعادت الإمارات فتح سفارتها في دمشق، أواخر عام 2018 لأول مرة منذ سبع سنوات، وهو ما اعتبرته فرانس 24 يمثل دفعة كبيرة للرئيس بشار الأسد، خاصة وأن الإمارات كانت سابقًا تدعم معارضيه، وإن كان دورها أقل بروزًا من دور السعودية وقطر وتركيا في ذلك حينها، وكانت تلك مجرد بداية.
في الشهر الماضي، كشف موقع «Orient XXI» هذا التقارب الذي يتجاوز تطبيع العلاقات الدبلوماسية، إذ انتقل ثمانية ضباط إماراتيين لتقديم المشورة لقيادة الجيش السوري، وفي المقابل التحق خمسة طيارين سوريين بـ «كلية خليفة بن زايد الجـوية» من أجل تحسين مهاراتهم، كما توفر أبو ظبي تدريبات تقنية وعلمية ولوجستية لمسؤولين بارزين في المخابرات العسكرية السورية.
كيف يحدث تقارب في هذا الملف مع فرنسا التي تتعهد علنًا بـ«الردّ على جرائم الحرب التي يرتكبها النظام السوريّ وعلى استخدامه الأسلحة الكيميائية»؟ أحد الدوافع الرئيسية هو أن باريس تجد جيشها وأفرادها المدنيين مهددين في شمال شرقي سوريا بالتوغل التركي، ولذلك أدانه المسؤولون الفرنسيون مرارًا وتكرارًا، وحذر ماكرون في مايو (أيار) الماضي من أنه «يهدد بنشوب أزمة إنسانية لا يمكن تحملها، وقد يساعد في عودة ظهور تنظيم داعش في المنطقة».
لكن جذور هذا التعاون تسبق التوغل التركي في شمال سوريا، ولتتضح الصورة أكثر سنعود مرة أخرى إلى جان إيف لودريان، الذي سافر إلى الإمارات في عام 2015 حين كان وزيرًا للدفاع، والتقى ضباطًا متمركزين في قاعدة ميناء زايد البحرية في شمال أبو ظبي، للاطمئنان بنفسه على أولى نتائج الطلعات الجوية التي نفذتها طائرات رافال فرنسية في الأجواء السورية، بهدف جمع معلومات استخباراتية حول مواقع «تنظيم الدولة».
ومرد ذلك أن العمليات الجوية الفرنسية كانت تنطلق من قاعدة الظفرة الجوية في الإمارات لتنفيذ مهامها في العراق وسوريا، هو ما برره لودريان في مقابلة مع صحيفة لوموند الفرنسية برغبة بلاده في مواجهة «مراكز تدريب المقاتلين الأجانب» في سوريا والتي لا تهدف فقط إلى احتلال أراضٍ في هذا البلد بل إلى «التدخل في أوروبا وخصوصًا في فرنسا».
عرَّاب الصفقات الدفاعية.. من يحلّ عقدة المقاتلة «رافال»؟
لم تكن رحلة إنتاج المقاتلة رافال قصيرة، ولا كان تسويقها سهلًا؛ فشركة داسو وضعت خطط تصنيعها عام 1986، لكنها لم تدخل الخدمة رسميًا في صفوف القوات الجوية الفرنسية إلا في عام 2006، بعد 20 عامًا من التجارب والتطوير.
وطيلة 10 سنوات أخرى، ظل الجيش الفرنسي هو المستهلك الأول والرئيس للمقاتلة، خلال العقد الأول من عمر المقاتلة، فيما فشلت شركة داسو في تسويقها رغم الجهود الكبيرة التي بذلتها، وسط منافسة شرسة مع الشركات الأمريكية والروسية.
فمن يتقدَّم لينقذ الموقف ويحلّ عقدة الـ «رافال»؟ وهل أنسب من لودريان الذي يتمتع بعلاقاتٍ حميمة مع «إسبرطة الصغيرة»؛ اللقب الذي أطلقه وزير الدفاع الأمريكي السابق، جيمس ماتيس، على دولة الإمارات.
لكن ولي عهد أبو ظبي أحجم في بداية العقد الماضي عن مناقشة هذه الصفقة؛ لأنها باهظة الثمن للغاية، وهبوط أسعار النفط أثر في قدرات الإمارات المالية، وهذا ما جعلها «مفاوضًا صعبًا»، على حد قول مساعد مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية جان بيار مولني.
حتى في ضوء هذا الإحجام، فإن العلاقة الحميمة التي تجمعه مع لودريان تسمح بإعادة طرق الباب، ولو على هامش فعاليّة أخرى، كما حدث في مطلع عام 2014، حسبما أفادت نشرة إنتليجنس أونلاين الاستخباراتية الفرنسية.
خلال السنوات الخمس (2012 – 2017) التي شغل فيها لودريان منصب وزير الدفاع، حدثت الانفراجة وفُكَّت عقدة الرافال، وكانت البداية بإبرام صفقة في فبراير 2015 لتزويد مصر بـ24 مقاتلة، وفوقها فرقاطة متعددة المهام من طراز «فريم».
ومع توالي الدفعات على مصر؛ الأولى في يوليو 2015، والثانية في يناير 2016، لم يتوقف لودريان عن محاولاته لإقناع الإمارات بعقد صفقتها الخاصة، على الرغم من التقارير المتواترة التي أفادت بأن نصف فاتورة الصفقة المصرية دُفِعَت بأموالٍ خليجية، إماراتية وسعودية.
هذا هو السر الذي حجبه ماكرون عن كبار المسؤولين الفرنسيين لسنوات – حسبما كشف فينسان لوبير في تقرير له بمجلة لونوفل أوبزرفاتور – تجنبًا للانتقادات المتوقعة، خاصة بعد عاصفة الغضب التي أطلقها اغتيال خاشجقي، حتى ولو كانت الصفقة التي تبلغ قيمتها خمسة مليارات يورو قدمت لفرنسا «خدمة لا تقدر بثمن»، لأنها كانت أول عقد تحصل عليه باريس لبيع طائرات «رافال».
ثنائية الأمن والطاقة.. العلاقات الإماراتية – الفرنسية
حين أراد الشيخ زايد في وقت مبكر من تأسيس الدولة الحصول على منظومة دفاعية تركز على الردع يمم وجهه شطر فرنسا، وهو التاريخ الذي يفخر به الموقع الرسمي للخارجية الفرنسية. في البداية، اقتصرت العلاقة بين البلدين على ثنائي الطاقة والأمن، وعلى الرغم من أنها باتت الآن تشمل مجموعة واسعة من الأنشطة في مجالات مختلفة، إلا أن هذين المجالين لا يزالان يستحوذان على النصيب الأكبر من الأهمية.
على سبيل المثال، وقعت هيئة الطاقة الذرية والبديلة الفرنسية CEA مع مؤسسة الإمارات للطاقة النووية مذكرة تعاون للبحث والتطوير في مايو الماضي لدعم برنامج الإمارات النووي، وخاصة التعاون في مجالات الوقود والنفايات المشعة والسلامة النووية.
وإلى جانب صفقات الأسلحة المربحة، سواء الموجهة مباشرة إلى الإمارات أو التي تمولها الدولة الخليجية لصالح وكلاء آخرين من الدول أو الجهات الفاعلة، يتوقع المدير الإقليمي لوكالة بيزنس فرانس الشرق الأوسط، فريدريك سابو، أن تستحوذ مشاريع بناء النفط والغاز المخطط لها في دول مجلس التعاون الخليجي على 660 مليار دولار أمريكي بحلول عام 2025، 29.6 مليار دولار منها للإمارات.
وما بين السلاح والطاقة، يبرز اسم لودريان دائمًا، سواء كان وزيرًا للدفاع أم حاملًا لحقيبة الخارجية، باعتباره حليفًا موثوقًا تستطيع الإمارات الاعتماد عليه، ليس فقط في قلب باريس، بل وفي ساحات أخرى ملتهبة حول العالم.