بعد 37 عامًا قضاها اقتصاد زيمبابوي تحت ظل روبرت موجابي، وعانى فيها من التدهور والأزمات، مر ما يقرب من عامين على النظام الجديد في البلاد، إذ تم عزل موجابي في نوفمبر (تشرين الثاني) 2017، وبعد أسابيع قليلة اختير إمرسون منانجاجوا رئيسًا للبلاد، وبرغم ذلك لا يوجد بوادر تحسن اقتصادي قريب؛ فالبطالة ما زالت تسجل معدلات قياسية، والتضخم لم يتحرر من خانة المئات، وأسعار الوقود تواصل الاشتعال، فلماذا لم تعالج الديمقراطية أزمات اقتصاد زيمبابوي؟

قبل الإجابة على هذا السؤال، يجب أن نشير إلى أن زيمبابوي تمتلك ثروات طبيعية كبيرة مثل الفحم، والذهب، والنيكل، والنحاس، والقصدير، والحديد، وأن التبغ، والبلاتينيوم، والقطن، والمنسوجات، والحبوب من أهم منتجاتها، وقد نالت البلاد الاعتراف الدولي باستقلالها في 1980، بعد أن أصبح موجابي أول رئيس وزراء لزيمبابوي.

سياسة

منذ 5 سنوات
«روبرت موجابي».. ماذا يحدث للديكتاتور حين يتجاوز التسعين؟

لكن مع بداية الألفية الحالية عانت البلاد من نقص حاد في توفير الغذاء بسبب الجفاف الشديد، وتأثير برنامج الإصلاح الزراعي الذي عمل على إعادة توزيع الأراضي الزراعية المملوكة من قبل البيض على أبناء البلاد الأفارقة، إذ تخلل الفساد هذا البرنامج؛ وهو ما أدى إلى هبوط حاد في الإنتاج، وانتشار الفقر، والبطالة في ظل القمع السياسي الذب تميز به موجابي.

هل الديمقراطية مرتبطة بالضرورة بالتحسن الاقتصادي؟

من الصعب تصور أن يجتمع القمع السياسي أو العسكري مع النمو الاقتصادي والحرية الاقتصادية، والتي تزدهر في الأساس في ظل الديمقراطية، فالحرية السياسية ينشأ عنها حرية اقتصادية، وكلتا الحريتين تصنعان حالة من تحفيز للنمو الاقتصادي بشكل تكاملي؛ والتوسع في أي منهما يعني التوسع في الآخر.

لذا جعل معظم مفكري الاقتصاد، وعلى رأسهم آدم سمث، وميلتون فريدمان، وفريدريش فون هايك وغيرهم، الحرية الاقتصادية شرطًا أساسيًا لزيادة النمو الاقتصادي أو انتعاش الاقتصاد عمومًا. فالأول يرى أن الأسواق الحرة وحماية حقوق الملكية وعدم تدخل الحكومة في النشاط الاقتصادي يؤدي إلى الرخاء والنمو الاقتصادي، وهذه الأشياء مرتبطة بالحرية السياسية والديمقراطية.

وبما أن فترة موجابي ارتبطت بشكل مباشر بالاستبداد والقمع وكبح الحريات؛ كان من المنطقي أن يعيش اقتصاد زيمبابوي وضعًا مزريًا، وسط زيادة معدلات الفقر والتخلف. فحكم موجابي بحالته القمعية، لا يساعد في حل المشكلة الاقتصادية الأساسية (الندرة)؛ إذ إن الحل قائم في الأساس على التوزيع العادل للثروة والدخل، وهي أمور لم يوفرها موجابي.

ويشار أيضًا إلى أن الاستقرار السياسي يصنع حالة اقتصادية إيجابية جدًا للدول؛ إذ يعد أهم مقومات التنمية الاقتصادية، ويؤثر بشكل ملموس على المناخ الاقتصادي، وقطاعات السياحة، والاستثمار، وسوق الصرف الأجنبي، كما أن عدم الاستقرار يكون له آثار اقتصادية سلبية، خاصة على البينة التحتية والتنمية الاقتصادية.

لكن السؤال الآن: متى تظهر نتائج هذا الاستقرار؟ بالطبع الديمقراطية عامل مهم للاستقرار الاقتصادي، لكنها ليست العامل الوحيد، بمعنى أنه من الصعب وجود الاستقرار في غياب الديمقراطية، لكن قد لا يأتي الاستقرار أيضًا في ظل الديمقراطية، فوجود وترسخ المسار الديمقراطي لا يعني بالضرورة أن تحقق الدول تنمية محتومة، لكن كما ذكرنا فالاتجاه العام يشير إلى أن الميل الأكبر لدى الباحثين الاقتصاديين ينحو باتجاه تفضيل نشر الديمقراطية.

ويختلف الوضع في زيمبابوي عن الدول التي تشهد تغييرًا سياسيًا إلى الأفضل في بعض العوامل الاقتصادية التي تجعل للإصلاح ضريبة باهظة، أي أن الفترة ما بعد موجابي لن تكون وردية؛ وذلك لأن الأزمات التي مرت بها البلاد على مدار نحو أربعة عقود تحتاج إلى سنوات من الإصلاح، وخلال السطور القادمة سنناقش بعض هذه الأزمات.

بين الإلغاء والعودة.. هل العملة المحلية السبب في إرباك الاقتصاد؟

تعتبر أزمة العملة هي المشكلة الأبرز في البلاد، فبعد انهيار حاد للعملة المحلية قررت زيمبابوي قبل عام من الآن إلغاء العملة المحلية، واستخدام عملات أجنبية على رأسها الدولار الأمريكي وراند جنوب أفريقيا، كذلك وصل الأمر إلى محاولات التعامل من خلال عملات رقمية بديلة، لكن مؤخرًا أعلن بنك الاحتياطي في زيمبابوي عن أن العملة المحلية أصبحت سارية المفعول.

القرار الذي جاء مفاجئًا شمل أيضًا، قرار من البنك بعدم قبول العملات الأجنبية الأخرى من داخل القارة الأفريقية، بالإضافة إلى زيادة معدل الفائدة في البلاد إلى 50%، بدلًا عن 15%، هذا القرار جاء بعد سلسلة من القرارات الخاصة بالعملة، والتي فشلت جميعها في إعادة الأمور إلى نصابها الطبيعي.

بالرغم من ترحيب البعض بهذه الخطوة يشكك آخرون في القرار الذي يمكن أن تكون نتائجه كارثية على التضخم، إذ يرى منتقدو عودة الدولار الزيمبابوي، أنه من الضروري ضمان استقرار الاقتصاد الكلي واستعادة ثقة الجمهور قبل أن تتمكن البلاد من بدء التداول بعملتها المحلية، إذ إن القيمة الحقيقية للعملة تكمن في ثقة الجمهور إلى جانب القيمة الجوهرية والسوقية.

وبسبب استمرارية انعدام ثقة المستهلكين والشركات إزاء النظام النقدي الخاضع لإدارة الدولة، فإن الدولار الجديد فقد نحو خُمس قيمته تقريبًا خلال شهر من إدخاله، خاصة أن مؤتمر نقابات العمال في زيمبابوي – أكبر هيئة عمالية في البلاد – يهدد بإجراءات جماعية ما لم تتراجع الحكومة عن سياسة استخدام «أر. تي. جي. إس دولار» عملة وحيدة للبلاد، وإعلان عن دفع رواتب العمال بالدولار الأمريكي.

إلا أن جورج جوفاماتانجا، وزير المالية والتنمية الاقتصادية، يعتقد أنه لأول مرة منذ عقود، تمر زيمبابوي بإصلاحات وتحولات حقيقية وذات مغزى، إذ يرى أن أساس إصلاحات العملة هو قدرة الحكومة على الاهتمام بوضعها المالي، موضحًا أن الحكومة لا تعاني من عجز مالي كبير كما كان في الماضي.

وقال، جوفاماتانجا، إن استخدام الدولار الأمريكي كان يخنق النمو؛ مما يجعل الشركات المحلية غير قادرة على المنافسة، كما خلق اقتصادًا من طبقتين، مما جعل من الصعب للغاية الآن لأولئك الذين ليس لديهم إمكانية الوصول إلى الدولار الأمريكي؛ تداوله في زيمبابوي. كما أنه كان يلغي فاعلية دور الحكومة في استخدام أدوات السياسة النقدية اللازمة لإدارة الأسعار، والتضخم وإدارة سعر الصرف، ولذلك يرى أن الحكومة بهذه الخطوة نجحت في خلق بيئة مالية مستقرة.

شبح التضخم يقوض الثقة في الإصلاح

وتنبع عدم ثقة الجمهور من شبح 2008، عندما تسارع التضخم إلى 500 مليار%، وكانت أكبر ورقة بنكنوت بنكية صادرة قيمتها 100 تريليون دولار زيمبابوي، فهذه الأوضاع لا تزال تطارد المواطنين، إذ يعيش اقتصاد هراري حالة من الفوضى، إذ يتم استيراد كل شيء تقريبًا من الخارج مع نقص حاد في توافر السيولة النقدية إضافة لارتفاع تكلفة المعيشة مع تفشي البطالة.

وتسارع التضخم في البلاد لأكثر من 175% خلال الشهر الماضي على أساس سنوي، ليكون عند أعلى مستوى في نحو عقد من الزمن، وذلك بعد انكماش الأسعار قبل ثلاثة أعوام تقريبًا، وبحسب بيانات صادرة عن مكتب الإحصاءات، فإن مؤشر أسعار المستهلكين ارتفع بنسبة 175.7% خلال شهر يونيو (حزيران) الماضي على أساس سنوي مقابل 97.9% المسجلة في مايو (أيار) السابق له.

ويواصل التضخم الصعود الشهري التاسع والعشرون، كما توضح البيانات أن كافة مؤشرات تكاليف الغذاء والملابس والأثاث والرعاية الصحية ارتفعت بأكثر من 200% خلال الشهر الماضي مقارنة مع الفترة المماثلة من عام 2018.

على الجانب الآخر هدد العاملون بالقطاع العام في زيمبابوي بالإضراب إذا فشلت الحكومة في زيادة الأجور على الأقل إلى 475 دولار شهريًا، إذ اتجه قادة النقابات العمالية إلى وزارتي المالية والعمل في هراري لتقديم مطالبهم بزيادة الأجور، وعلى الأرجح ستوافق الحكومة على هذه المطالب وهو ما سيضع البلاد في دائرة التضخم المتواصل مرة أخرى.

ما هي العلاقة بين زيمبابوي وصندوق النقد الدولي؟

تعمل زيمبابوي حاليًا من خلال برنامج لاستعادة الاستقرار الاقتصادي، بدعم من صندوق النقد الدولي، الذي توصل إلى اتفاق مع البلاد في أبريل (نيسان) الماضي، وهو ما يوضح سياسة التقشف الشديدة التي تستخدمها الحكومة، فاللمرة الرابعة خلال 2019، ترفع الهيئة المنظمة لقطاع الطاقة في زيمبابوي أسعار البنزين ووقود الديزل بما يصل إلى 16%، إذ أعلن الرئيس إمرسون منانجاجوا، أكبر زيادة في أسعار الوقود في يناير (كانون الثاني) بنسبة 150%، وهو ما أدى لاحتجاجات سقط فيها أكثر من 12 قتيلًا بعد تدخل الجيش.

وتسعى الحكومة التي تتبع سياسات الصندوق لمعادلة أسعار الوقود بتكلفة الاستيراد، إلا أن هذا الأمر يعد كارثة بالنسبة للغالبية من المواطنين، في ظل وصول نسبة البطالة لأكثر من  80%، ويبلغ أجر الموظف الحكومي عند بداية تعيينه نحو 49 دولارًا أمريكيًا في الشهر.

وفي الوقت الذي يتوقع فيه الاقتصادي الأمريكي الشهير، ستيف هانكي، أن يصل معدل التضخم إلى أكثر من 300%، تتوقع وزارة المالية أن ينحسر معدل التضخم إلى ما دون 14% بحلول نهاية العام، وفق برنامجها الاقتصادي.

وبموجب الاتفاق مع الصندوق، ستركز سياسات الحكومة على القضاء على العجز المالي المكون من رقمين واعتماد الإصلاحات للسماح لقوى السوق بتحريك عملات الصرف الأجنبي والأسواق المالية الأخرى، إذ تكافح زيمبابوي بمساعدة الصندوق أيضًا لتسديد ما يقدر بنحو 20 مليار دولار أمريكي من سندات الدين، وهو وضع قيد على البلاد في فتح خطوط ائتمان جديدة يُعتقد أنها أساسية نحو إصلاح الاقتصاد المنهك.

وفي 2016، سددت زيمبابوي متأخرات مستحقة عن 15 عامًا إلى النقد الدولي، لكن لا تزال متأخرة سنوات في سداد مدفوعات إلى البنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية، وهو ما يعرقل قدرتها على الحصول على تمويل تنموي من المؤسستين الماليتين الدوليتين.

وهذا الأمر جعل توصلها لاتفاق مع الصندوق كان أمرًا لا مفر منه، إلا أن النقد الدولي يقترح أن تخفض هراري أجور موظفي القطاع العام والدعم المقدم للمزارعين، وأيضًا تحسين الشفافية في قطاع التعدين، والتوصل إلى اتفاق بشأن تعويض المزارعين، ناهيك بالطبع عن رفع أسعار الوقود الذي يتم بالفعل.

وبحسب أحدث بيانات صادرة عن النقد الدولي، فإن اقتصاد زيمبابوي نما بنسبة 4.7% في عام 2017 بعدما سجل انكماشًا بنحو 17.67% في عام 2008، بينما يعاني القطاع الزراعي الذي كان يشكل الركيزة الأساسية للاقتصاد.

يشدد وزير المالية الحالي، مثولي نكوبي، من جانبه على أن البلاد تسير في الاتجاه الصحيح، إذ قال: «إن زيمبابوي تحتاج إلى تدابير قوية للغاية للقضاء على التضخم المفرط ولتنفيذ تلك التدابير القوية، إلا أنه يؤكد أن الأساسيات الحالية ليست كما كانت في عام 2009»، إذ ضرب مثالًا بالذهب، الذي كان إنتاجه في عام 2013 يتراوح بين 12 و13 طنًا متريًا سنويًا ومن خلال تدابير البنك المركزي؛ تمكنت البلاد من رفع الإنتاج من هذا الرقم من عام إلى آخر، إلى 32 طنًا متريًا في العام الماضي».

على كلٍ لم تتحقق الآمال في تحسن مستوى المعيشة في ظل حكم منانجاجوا حتى الآن، وهو أمر متوقع في ظل ظروف الاقتصاد التي تحدثنا عنها، لكن ارتفاع سقف طموح الكثيرين بعد التخلص من موجابي، كانت نتائجه سيطرة مشاعر الإحباط على المواطنين، وسط انقطاع التيار الكهربائي يوميًا لفترة تصل إلي 17 ساعة، فضلًا عن النقص الحاد في العملة الأجنبية، والوقود، والخبز، والأدوية، وهذه الأمور لن تعالجها الديمقراطية، بل الإصلاحات الاقتصادية الهيكلية الجادة، والتي غالبًا ما تكون فاتورتها صعبة على المواطنين، لذلك لم تختف الأزمات بظهور الديمقراطية.

المصادر

تحميل المزيد