ربما صار من المعلوم بالضرورة في أوساط أنصار القضية الفلسطينية في العالم أن الصهيونية هي مجرد نسخة أخرى من النازية، وذلك بناءً على واقع يعيشه أكثر من 14 مليون فلسطيني يعيشون في فلسطين المحتلة وفي الشتات؛ واقع تدعمه بيانات وتقارير دولية تثبت جريمة الفصل العنصري وجرائم ضد الإنسانية للكيان الصهيوني المحتل، مثل تقرير «هيومان رايتس ووتش» الصادر عنها في أبريل (نيسان) 2021.
لكن ما لا يعلمه كثيرون هو أن التاريخ يدعم تلك السردية أيضًا، ويقدم أدلة موثقة تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن الصهيونية رأت في النازية الناشئة مثالًا حيًّا لما يجب أن تكون عليه من حيث نقاء العرق والقيم القومية المتطرفة، ما دفعهما إلى التعاون معًا في فترات مختلفة بالعقد الرابع من القرن العشرين بشكل مباشر وغير مباشر حتى زوال النازية بشكلها الأصلي في العقد الخامس.
من ضمن الكتب التي تناولت هذا الموضوع هو كتاب «51 وثيقة: تعاون الصهاينة مع النازيين» المنشور عام 2010 للكاتب الأمريكي «ليني برينر»، والذي يعرض وثائق ومقالات وخطابات ورسائل، بعضها كان لقادة الحركة الصهيونية، وبعضها الآخر كان لمنظريها، يعبرون فيها عن رؤاهم الداعمة أو المتماشية مع رؤى النازية بشأن الأحداث الواقعة في تلك الفترة مثل تهجير اليهود والهولوكوست.
في هذا التقرير، نستعرض معًا بعضًا من تلك الوثائق ونحاول فهم سياقاتها التي كتبت فيها بغرض فهم طبيعة التعاون بين الصهيونية والنازية في تلك الفترة.
المسألة اليهودية في أوروبا: الصهاينة والنازيون يدٌ واحدة
اشتركت الصهيونية مع النازية حين نشأ كلاهما في كنف هدف واحد على الأقل، وهو حل المسألة اليهودية في أوروبا. فمع استعمار الإمبراطوريات الأوروبية للدول ذات الأعراق الأخرى حول العالم، نشأ لدى الطبقة الفكرية الأوروبية شعور بالتفوق العرقي، وبدأوا ينظرون إلى أوروبا بوصفها قارة للأعراق الأوروبية فقط.
بداية من القرن التاسع عشر وحتى بدايات القرن العشرين، تناول المفكرون والمنظرون والفلاسفة الأوروبيون وضع اليهود في أوروبا، ونظروا إليه بوصفه مسألة تحتاج إلى حل. فوفقًا لأولئك المفكرين والفلاسفة، لا مستقبل لليهود في أوروبا إن استمروا في التمسك بدينهم وعاداتهم وتقاليدهم المغايرة للأوروبيين.
بعضهم رأى أنه يمكن إدماج اليهود في المجتمع الأوروبي عن طريق إعادة تثقيفهم وخلقهم على صورة الأوروبيين، وبعضهم رأى أن اليهود عرق لا تناسبه إعادة التثقيف، وأنه لا حل إلا في تهجيرهم من أوروبا حفاظًا على نقاء الأعراق الأوروبية وثقافتها، وكان الصهاينة والنازيون معًا من أنصار الحل الثاني لأسباب مختلفة.
كان من أهداف النازية الرئيسة خلال نشأتها بداية العقد الثالث من القرن العشرين هو حل المسألة اليهودية، ومضى الأمر على ثلاثة مراحل، أولها كانت كتابة هتلر برنامج الخمسة وعشرين نقطة عام 1920، وفيه صرح بأن ألمانيا لا يمكنها أن تكون إلا لمن يحملون دمًا ألمانيًّا، وأن اليهود عرق أدنى من العرق الآري، لذلك فإنه يجب معاملتهم بصفتهم ضيوفًا على ألمانيا تنطبق عليهم قوانين خاصة بالأجانب. أيضًا، منع البرنامج الهجرة إلى ألمانيا من الأعراق الأخرى، وقضى بترحيل من هاجروا إلى ألمانيا بعد بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914.
ومع وصول الحزب النازي إلى السلطة، بدأت المرحلة الثانية، وهي تطبيق سياسات وقوانين تحول اليهود الباقين في ألمانيا إلى مواطنين درجة ثانية، وتجبر بعضهم على الهجرة وترك البلاد. وبدأت المرحلة الثالثة مع بداية الحرب العالمية الثانية، وفيها وُطن النازيون اليهود في بولندا ومدغشقر، ثم بدأوا في إبادتهم بشكل نظامي فيما عرف «بالحل النهائي للمسألة اليهودية».
لم تصب المفكرين الأوروبيين والنازيين عدوى التفوق العرقي وحدهم في تلك الفترة، بل امتدت للصهاينة أيضًا؛ ترجموا شعار «الأرض الألمانية لمن يحملون دمًا ألمانيًّا» إلى «الأرض اليهودية لمن يحملون دمًا يهوديًّا»، ورأوا منطقًا وشيئًا حميدًا في سياسة الحاخامات في العصور الوسطى التي كانت تقضي بعدم تهويد المسيحيين حفاظًا على نقاء العرق السامي.
كان من ضمن الصهاينة الذين تأثروا بذلك الفكر هو فلاديمير جابوتنسكي؛ أحد قادة الحركة الصهيونية في روسيا ومؤسس حركة المراجعة الصهيونية التي خرج من رحمها حزب الليكود في دولة الاحتلال، والذي ترأسه آرييل شارون وبنيامين نتنياهو.
فلاديمير جابوتنسكي
في رسالة له بعنوان «رسالة عن الحكم الذاتي» عام 1904، يؤكد جابوتنسكي على اعتقاده بأن اليهود لا يمكنهم أن يكونوا جزءًا من المجتمعات الأوروبية، وهو بذلك يؤمن بما يؤمن به النازيون في هذا الخصوص؛ يقول جابوتنسكي في رسالته:
«إنه من غير المعقول أن يتأقلم يهودي مولود لأبوين يهوديين ولأجيال يهودية عديدة مع الروح الألمانية أو الفرنسية. إن اليهودي الذي تربى وسط الألمان يمكنه أن يتبع التقاليد الألمانية، وأن يتحدث باللغة الألمانية، ويمكنه أن يكون مغموسًا في السائل الألماني، لكن روحه ستظل يهودية إلى الأبد، لأن دمه وجسده وملامحه يهودية. مستحيل أن يتعايش شخص ما مع أناس يختلف دمه عن دمهم. ولكي يحصل ذلك له، عليه أن يغير جسده ويصبح واحدًا منهم بالدم. لا توجد طريقة أخرى».
دعم المنظمات الصهيونية للنازية في زمن قبل الهولوكوست
بعد أن رأى الصهاينة والنازيون في بعضهما شريكًا لحل المسألة اليهودية، ترجموا تلك الرؤية إلى تعاون مشترك على الأرض يدفع باتجاه هدفهما في تهجير يهود ألمانيا إلى فلسطين. في تصريح له عام 1936، قال المفوض لشئون اليهود في الرايخ الألماني هير هينكل عند سؤاله عن سبب تفضيل ألمانيا النازية للصهاينة من بين اليهود: «إننا نفضل الصهاينة عمدًا لأنهم اليهود الوحيدون الذين أعطوا ضمانة رسمية ومقبولة للتعاون مع الحكومة».
بالطبع، يشير هينكل في تصريحه إلى «اتفاقية هافارا» عام 1933، وهي الاتفاقية التي جرت بين وزارة الاقتصاد في ألمانيا النازية والفيدرالية الصهيونية الألمانية برعاية البنك الإنجليزي الفلسطيني، ويسرت هجرة أكثر من 60 ألف يهودي ألماني إلى فلسطين في الأعوام ما بين 1933 و1939.
قضت الاتفاقية بأن ينقل يهود ألمانيا جزءًا من ثرواتهم إلى فلسطين عن طريق بيعهم أصولهم في ألمانيا، ورأت جميع الأطراف في ذلك حلًّا عمليًّا للمسألة اليهودية. فمن طرف اليهود الألمان، قدمت لهم الاتفاقية مخرجًا من الاضطهاد المتنامي في ألمانيا. وبالنسبة لليهود في فلسطين، وفرت لهم الاتفاقية عمالة مهاجرة ودعم اقتصادي. أما بالنسبة للألمان النازيين، فقد كانت الاتفاقية سبيلًا لتحييد التهديد اليهودي للاقتصاد الألماني بعد حركة المقاطعة التي قام بها يهود أوروبا وأمريكا ضد ألمانيا النازية عام 1933 اعتراضًا على القوانين والسياسات المجحفة بحق اليهود في حينها.
جدير بالذكر أن الصهيونية عارضت تلك المقاطعة التي قام بها اليهود حول العالم، ووضعت هدفها تهجير اليهود من ألمانيا فوق حماية حقوق اليهود في البلاد عن طريق المقاطعة، وذلك حسب كتاب «اتفاقية الانتقال: القصة غير المحكية للاتفاق السري بين الرايخ الثالث ويهود فلسطين» المنشور عام 1984 عن دار ماكميلان للمؤرخ الأمريكي إدوين بلاك.
عام 1932، انتقل جوستاف كرويانكر؛ المحرر بأقدم دار نشر صهيونية أوروبية، من ألمانيا إلى فلسطين، وظل يدعو بعدها إلى تعاون شامل بين الحركة الصهيونية العالمية وبين النازيين. وفي مقالة مطولة له بعنوان: «الهافارا (الانتقال): سؤال حيوي للحركة الصهيونية»، انتقد كرويانكر معارضي الاتفاقية قائلًا: «ينبغي أن يستطيع اليهود الألمان الذهاب إلى فلسطين. أي شخص يعترض على فكرة أنهم (أي اليهود الألمان) قد يفضلون عدم الذهاب إذا أعطيت لهم الإمكانية مثل بقية الشعوب اليهودية في العالم؛ فإنه لا يستطيع تقدير الحالة الخاصة للمشكلة الألمانية».
«دعهم يحترقون!» سياسة المنظمات الصهيونية خلال الهولوكوست
هنا يتجلى السؤال: ما الذي كانت تعمل عليه المنظمات الصهيونية الموجودة في أثناء الهولوكوست؛ أكبر كارثة في التاريخ اليهودي الحديث؟ الإجابة موجودة في خطاب ألقاه يتسحاق جروينباوم في اجتماع لقادة الصهيونية في فلسطين عام 1943 تحت عنوان: «عن الهولوكوست وردة الفعل»، ويتسحاق جروينباوم هو قيادي صهيوني بولندي ورئيس هيئة الإنقاذ الفلسطينية المعنية بالحرب العالمية الثانية والتابعة للمنظمة الصهيونية العالمية.
يتسحاق جروينباوم
«ولكن في هذه الأيام بإريتز-يسرائيل (أرض إسرائيل، في إشارة إلى فلسطين)، يقول الناس: (لا تضعوا إريتز-يسرائيل في مقدمة أولوياتكم بهذا الوقت الذي يعاني فيه يهود أوروبا من النكبة والدمار). أنا لا أقبل ذلك. وحينما سألني أحدهم: (ألا يمكنك أن تستعمل المال من كيرين هايسود (منظمة جمع تبرعات في فلسطين المحتلة) لإنقاذ اليهود في الشتات؟) قلت: (لا!) ومجددًا، أقول لا. يقول لي الأصدقاء إنه حتى وإن كان ما أقوله صحيحًا، فلا حاجة لإذاعته على الملأ في أوقات الحزن والقلق هذه. وأنا أختلف معهم، لأننا يجب أن نقف أمام هذه الموجة التي تسعى لوضع أنشطة الصهيونية في المرتبة الثانية (بعد إنقاذ اليهود في أوروبا). ولأجل هذا، دعاني بعض الناس بأنني ضد السامية، فقط لأننا (الصهاينة) لا نسخر أنفسنا لأعمال الإنقاذ بالكلية».
لم ينته كلام جروينباوم الصادم هنا، والذي عبر عن سياسة الحركة الصهيونية في تلك الفترة العصيبة على اليهود الأوروبيين، بل يكمل:
«في الشهور القليلة الماضية، وقفت في مناظرة أمام شخص يقول (إن الصهاينة يريدون إعطاء فتات ما يتبقى من الجهود والموارد المستخدمة في بناء إريتز-يسرائيل إلى جهود إنقاذ اليهود في أوروبا المغزوة). وسألني هذا الشخص: (ألن تتوقفوا عن العمل في إريتز-يسرائيل في وقت يقتل فيه اليهود ويذبحون بمئات الآلاف وبالملايين في حين ينبغي لنا تركيز جميع الجهود لإنقاذهم؟ لا تبنوا مستوطنات جديدة، ولا تشتركوا في أعمال بناء بالبلاد، بل أنفقوا الأموال لإنقاذ ومساعدة اليهود في الشتات). لو لم تكن الصهيونية أولًا، فإنه كان من الممكن أن أتجاوب مع كل هذه الأسئلة بالقبول. لو لم تكن الصهيونية هي النقطة المركزية لكل وأي زمن، سواءً كان زمن نكبة أو زمنًا اعتياديًّا، لكان الجواب على كل تلك الأسئلة بالإيجاب».
وينهي جروينباوم خطابه بقوله:
«الصهيونية فوق الجميع. يجب علينا تأكيد ذلك وقتما تحدث كارثة تثنينا عن حربنا للخلاص في صهيون».
يوضح لنا هذا الخطاب، ووثائق أخرى مذكورة في كتاب «51 وثيقة: تعاون الصهاينة مع النازيين»، كيف تغاضى الصهاينة عن الهولوكوست ومعاناة اليهود الأوروبيين لأجل مشروعهم الاستعماري في فلسطين، لكنهم ما إن سنحت لهم الفرصة لاستغلاله فيما، بعد حملوه على أكتافهم واستجدوا به التعاطف والتمويل من يهود العالم، وابتزوا به ألمانيا لتدفع لهم تعويضات تقدر بمليارات اليوروهات.
عصابة شتيرن.. محاولة الصهيونية القتال لأجل النازية
أسس أفراهام شتيرن؛ القائد العسكري في جماعة «إيرجون» الصهيونية المسلحة، عام 1940، جماعة مسلحة أخرى في فلسطين تحت اسم «محاربون من أجل حرية إسرائيل»، وعرفت فيما بعد بالاسم الذي أطلقه عليها البريطانيون «عصابة شتيرن».
كانت عصابة شتيرن معادية للوجود البريطاني في فلسطين بشكل قاطع، وأطلقوا عدة هجمات ضد عدد من المسؤولين البريطانيين هناك، بالإضافة إلى مطارات وسكك حديدية ومواقع إستراتيجية أخرى في فلسطين بذلك الوقت، حتى أنهم طلبوا المعونة من دول المحور لإجلاء البريطانيين عن فلسطين بشكل كامل.

أفراهام شتيرن
تقدم شتيرن عام 1941 باقتراح إلى هتلر عن طريق اثنين من الدبلوماسيين الألمان في لبنان. وجدير بالذكر أن هذه الرسالة لم تصل الرسالة إلى هتلر، إذ أرسلها الدبلوماسيون إلى سفارة ألمانيا في تركيا ووجدت هناك بعد الحرب.
يبدأ الاقتراح في الرسالة بالحديث عن المسألة اليهودية، وكيف أن رؤى النازية بشأن الحل تتفق مع رؤى الصهيونية، ثم ينتقل إلى توضيح آراء شتيرن بشأن ذلك الحل في ثلاث نقاط:
- يمكن للمصالح المشتركة أن توحد بين النظام الأوروبي الجديد تحت ظل النازية، وبين تطلعات الشعب اليهودي القومية في فلسطين.
- توجد إمكانية للتعاون بين ألمانيا الجديدة وبين دولة عبرانية.
- سيكون من مصلحة ألمانيا إنشاء الدولة اليهودية التاريخية على أساس قومي وشمولي عن طريق معاهدة مع الرايخ الألماني، لأن ذلك سيؤدي إلى تقوية الموقف الألماني في الشرق الأدنى.
ويتبع شتيرن تلك النقاط باقتراحه قائلًا: «إنطلاقًا من هذه الآراء، فإن المنظمة الوطنية العسكرية في فلسطين، تحت شرط قبول التطلعات القومية المذكورة أعلاه من قبل الرايخ الألماني، تعرض استعدادها للمشاركة في الحرب إلى جانب ألمانيا».
بعد نحو عام من إرسال هذا الاقتراح إلى ألمانيا النازية، قُتل شتيرن على يد القوات البريطانية في فلسطين عام 1942، وقبض على كثير من القيادات العسكرية بالعصابة، لكنها لم تتفكك إلا حين قيام دولة الاحتلال عام 1948؛ إذ جرى إدماجها في جيش الاحتلال مع عصابات أخرى مثل الهاجاناه.
لمن لا يستطيع قراءة الواقع، فإن هذه الوثائق تثبت بما لا يدع مجالًا للشك أننا نعيش اليوم مع نازية جديدة قديمة لا يحاربها العالم ولا يرى فيها خطرًا على السلم والأمن العالميين، بل ترسل لها الولايات المتحدة سنويًّا ما يزيد على 3.8 مليارات دولار معونة عسكرية تستخدمها في قمع شعب بأكمله تحت سمع العالم «الحر» وبصره، الذي يعادي النازية بكل ما أوتي من قوة، ويحابي الصهيونية، الوجه الآخر للعملة ذاتها!